قَايِينُ وَقَتَلَ هَابِيلَ، فَسَأَلَهُ الرَّبُّ عَنْهُ: أَيْنَ هُوَ؟ فَأَجَابَ: لَا أَعْلَمُ، وَهَلْ أَنَا حَارِسٌ لِأَخِي؟ فَلَعَنَهُ الرَّبُّ وَطَرَدَهُ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ! فَنَدِمَ، وَاسْتَرْحَمَ الرَّبَّ، وَخَافَ أَنْ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ (١٥ - فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ:
لِذَلِكَ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَايِينَ فَسَبْعَةُ أَضْعَافٍ يَنْتَقِمُ مِنْهُ، وَجَعَلَ الرَّبُّ لِقَايِينَ عَلَامَةً لِكَيْ لَا يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ (! !) فَخَرَجَ قَايِينُ مِنْ لَدُنِ الرَّبِّ، وَسَكَنَ فِي أَرْضِ نَوْدٍ شَرْقِيَّ عَدَنَ! !) وَفِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مِنْهُ أَنَّ نُوحًا قَالَ لِبَنِيهِ (٦ سَافِكُ دَمِ الْإِنْسَانِ بِالْإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ ; لِأَنَّ اللهَ عَلَى صُورَتِهِ عَمِلَ الْإِنْسَانَ) وَفِي الْفَصْلِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ إِنْسَانًا عَمْدًا يُقْتَلُ، وَمَنْ بَغَى عَلَى صَاحِبِهِ لِيَقْتُلَهُ بِغَدْرٍ " فَمِنْ عِنْدَ مَذْبَحِي تَأْخُذُهُ لِلْمَوْتِ " وَمَنْ ضَرَبَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ أَوْ شَتَمَهُمَا، أَوْ سَرَقَ إِنْسَانًا وَبَاعَهُ أَوْ وُجِدَ فِي يَدِهِ يُقْتَلُ، فَأَسْبَابُ الْقَتْلِ عِنْدَهُمْ كَثِيرَةٌ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الشِّدَّةُ رَادِعَةً لَهُمْ عَنِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ حَتَّى قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، فَهَلْ يَكْثُرُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنْ قَتْلِ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى غَدْرًا؟ لَا، لَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ:
(وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) أَيْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ بَيِّنَاتُ الرُّسُلِ، وَلَا هَذَّبَتْ نُفُوسَهُمْ، بَلْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرِ الْقَتْلِ، وَمِنْ مَجِيءِ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ، يُسْرِفُونَ فِي الْأَرْضِ بِالْقَتْلِ وَسَائِرِ ضُرُوبِ الْبَغْيِ. أَكَّدَ إِثْبَاتَ وَصْفِ الْإِسْرَافِ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ تَأْكِيدًا بَعْدَ تَأْكِيدٍ ; لِأَنَّ تَشْدِيدَ الشَّرِيعَةِ، وَتَكْرَارَ بَيِّنَاتِ الرُّسُلِ، كَانَتْ تَقْتَضِي عَدَمَ ذَلِكَ أَوْ نُدُورَهُ. وَالْحُكْمُ عَلَى الْكَثِيرِ دُونَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ مِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ فِي الصِّدْقِ وَتَحْدِيدِ الْحَقَائِقِ، وَهَذَا الرُّسُوخُ فِي الْإِسْرَافِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُمَّ أَفْرَادَ الْأُمَّةِ، وَالنَّاسُ يُطْلِقُونَ وَصْفَ الْكَثِيرِ عَلَى الْجَمِيعِ فِي الْغَالِبِ. وَالْإِسْرَافُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْعَمَلِ ; أَيْ حَدِّ الْحَقِّ وَالْمَصْلَحَةِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبِالْعَقْلِ وَالْعُرْفِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي الْقَوْمِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ شَرْعٌ. وَكُلُّ مَا يُتَجَاوَزُ فِي الْحَدِّ يُفْسِدُ. وَالْأَصْلُ فِي مَعْنَى الْإِسْرَافِ الْإِفْسَادُ، فَهُوَ مِنَ السُّرَقَةِ، وَهِيَ بِالضَّمِّ الدُّودَةُ الَّتِي تَأْكُلُ الشَّجَرَ وَالْخَشَبَ، وَإِذَا كَانَ الْإِسْرَافُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ يَجْعَلُهُ شَرًّا ; كَالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ الَّتِي تَذْهَبُ بِالْمَالِ كُلِّهِ، فَتُفْسِدُ عَلَى صَاحِبِهَا أَمْرَ مَعَاشِهِ. فَمَا بَالُكَ بِالْإِسْرَافِ فِي الشَّرِّ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ وَتَجَاوُزُ مَا اعْتَادَهُ الْأَشْرَارُ فِيهِ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) (١٧: ٣٣) فَهُوَ نَهْيٌ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ أَنْ يَتَجَاوَزَ حَدَّ الْقِصَاصِ إِلَى قَتْلِ غَيْرِ الْقَاتِلِ، أَوْ تَعْذِيبِ الْقَاتِلِ وَالتَّمْثِيلِ بِهِ.
وَأَكْبَرُ الْعِبَرِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قِصَّةَ ابْنَيْ آدَمَ أَقْدَمُ قِصَّةٍ تَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ الْحَسَدَ كَانَ مَثَارَ أَوَّلِ جِنَايَةٍ فِي الشَّرِّ، وَلَا يَزَالُ هُوَ الَّذِي يُفْسِدُ عَلَى النَّاسِ أَمْرَ اجْتِمَاعِهِمْ، مِنِ اجْتِمَاعِ الْعَشِيرَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute