مَعَهُمْ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِمَنْ يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَأَنَّهُمُ اعْتَدُّوا بِمَا أَظْهَرَهُ الْعُرَنِيُّونَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَرَوَوْا عِدَّةَ رِوَايَاتٍ فِي تَطْبِيقِ الْآيَةِ عَلَى الْخَوَارِجِ، بَلْ قَالُوا إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ.
وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ - بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ - أَنَّهَا عَامَّةٌ لِكُلِّ مَنْ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إِذَا قَدَرْنَا عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهَا بِالْفِعْلِ أَوْ الِاسْتِعْدَادِ. وَقَدْ قَالَ الَّذِينَ جَعَلُوهَا خَاصَّةً بِالْمُسْلِمِينَ: إِنَّ أَحْكَامَ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ مَعْرُوفَةٌ بِالنُّصُوصِ وَالْعَمَلِ، وَلَيْسَ فِيهَا هَذِهِ الدَّرَجَاتُ فِي الْعِقَابِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا الْعِقَابَ خَاصٌّ بِمَنْ فَعَلَ مِثْلَ أَفْعَالِ الْعُرَنِيِّينَ، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يُتَّبَعَ فِي حَرْبِ كُلِّ مَنْ حَارَبَنَا مِنَ الْكُفَّارِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اسْتِثْنَاءَ مَنْ تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَةِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُشْتَرَطُ فِي تَوْبَتِهِمْ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ هَذَا الْإِفْسَادِ هِيَ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، لَا التَّوْبَةُ مِنَ الْكُفْرِ.
وَمَجْمُوعُ الرِّوَايَاتِ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ تُفِيدُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِسْلَامَ خَدِيعَةً لِلسَّلْبِ وَالنَّهْبِ، وَأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ، ثُمَّ قَتَلُوهُمْ وَمَثَّلُوا بِهِمْ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُمُ اعْتَدَوْا عَلَى الْأَعْرَاضِ أَيْضًا، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاقَبَهُمْ بِمِثْلِ عُقُوبَتِهِمْ ; عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (٤٢: ٤٠) وَقَوْلِهِ: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) (٢: ١٩٤) إِنْ صَحَّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ عِقَابِهِمْ، وَلَمْ يَعْفُ عَنْهُمْ كَعَادَتِهِ ; لِئَلَّا يَتَجَرَّأَ عَلَى مِثْلِ فَعْلَتِهِمْ أَمْثَالُهُمْ مِنْ أَعْرَابِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَأَرَادَ بِذَلِكَ الْقِصَاصَ وَسَدَّ الذَّرِيعَةِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْآيَةَ بِهَذَا التَّشْدِيدِ فِي الْعِقَابِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِفْسَادِ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ؛ وَهِيَ سَدُّ ذَرِيعَةِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، وَلَكِنَّهُ حَرَّمَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ
الْمُثْلَةَ؛ وَهِيَ تَشْوِيهُ الْأَعْضَاءِ، وَلَا مَفْسَدَةَ أَشَدُّ وَأَقْبَحُ مِنْ سَلْبِ الْأَمْنِ عَلَى الْأَنْفُسِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ النَّاطِقَةِ وَالصَّامِتَةِ. فَرُبَّ عُصْبَةٍ مِنَ الْمُفْسِدِينَ تَسْلُبُ الْأَمَانَ وَالِاطْمِئْنَانَ مِنْ أَهْلِ وِلَايَةٍ كَبِيرَةٍ، وَرُبَّ عُصْبَةٍ مُفْسِدَةٍ تُعَاقَبُ بِهَذِهِ الْعُقُوبَاتِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْآيَةِ فَتَطْهُرُ الْأَرْضُ مِنْ أَمْثَالِهَا زَمَنًا طَوِيلًا.
وَالتَّشْدِيدُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ السِّيَاسَةِ، لَا تَزَالُ جَمِيعُ الدُّوَلِ تُحَافِظُ عَلَيْهِ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ يُحَكِّمُ الْوَهْمَ فِيهِ، وَمِنَ الْأَمْرِ الْإِدِّ مَا اجْتَرَحَتْهُ إِنْكِلْتِرَةُ فِي مِصْرَ بِهَذَا الْقَصْدِ؛ إِذْ مَرَّ بِقَرْيَةِ (دِنْشُوَايْ) مُنْذُ سِنِينَ قَلِيلَةٍ أَفْرَادٌ مِنْ جُنْدِ الْإِنْكِلِيزِ، كَانُوا يَصِيدُونَ الْحَمَامَ عِنْدَ بَيْدَرِهَا، فَتَخَاصَمُوا مَعَ أَصْحَابِ الْحَمَامِ وَتَضَارَبُوا، فَعَظُمَ عَلَى الْإِنْكِلِيزِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute