تَجَرُّؤُ الْفَلَّاحِ الْمِصْرِيِّ عَلَى ضَرْبِ الْجُنْدِيِّ الْإِنْكِلِيزِيِّ، فَعَقَدُوا الْمَحْكَمَةَ الْعُرْفِيَّةَ لِمُحَاكَمَةِ أُولَئِكَ الْفَلَّاحِينَ بِرِيَاسَةِ بُطْرُسَ بَاشَا غَالِي، فَحَكَمَتْ عَلَى بَعْضِ أُولَئِكَ الْفَلَّاحِينَ بِأَنْ يُصْلَبُوا وَيُعَذَّبُوا بِالضَّرْبِ بِالسِّيَاطِ (الْكَرَابِيجِ) ذَاتِ الْعُقَدِ، حَتَّى تَتَنَاثَرَ لُحُومُهُمْ، وَأَنْ يَبْقَوْا مَصْلُوبِينَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى أَعْيُنِ أَهْلِيهِمْ وَأَعْيُنِ النَّاسِ، وَنُفِّذَ الْحُكْمُ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ الْقَسْوَةَ وَاسْتَفْظَعَهَا النَّاسُ، حَتَّى بَعْضُ أَحْرَارِ الْإِنْكِلِيزِ فِي بِلَادِهِمْ، وَشَنَّعُوا عَلَيْهَا فِي الْجَرَائِدِ وَفِي مَجْلِسِ النُّوَّابِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ لَا تُعَدُّ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى ذِي السُّلْطَانِ، وَلَا مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنْ قَصَدَ الْإِنْكِلِيزُ بِالْقَسْوَةِ فِيهَا أَلَّا يَتَجَرَّأَ أَحَدٌ عَلَى مُقَاوَمَةِ جُنْدِيٍّ إِنْكِلِيزِيٍّ، وَإِنِ اعْتَدَى، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ عَدْلِ الْإِسْلَامِ الَّذِي سَاوَى خَلِيفَتُهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَ ابْنِ فَاتِحِ مِصْرَ وَقَائِدِ جَيْشِهَا وَحَاكِمِهَا الْعَامِّ (عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) وَبَيْنَ غُلَامٍ قِبْطِيٍّ ; إِذْ تَسَابَقَا، فَسَبَقَ الْقِبْطِيُّ ابْنَ الْحَاكِمِ، فَصَفَعَهُ هَذَا وَقَالَ: أَتَسْبِقُنِي وَأَنَا ابْنُ الْأَكْرَمَيْنِ؟ فَلَمَّا رُفِعَ الْأَمْرُ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمْ يَرْضَ إِلَّا أَنْ يَصْفَعَ الْقِبْطِيُّ ابْنَ الْفَاتِحِ الْحَاكِمِ كَمَا صَفَعَهُ، وَقَالَ لِعَمْرٍو كَلِمَتَهُ الذَّهَبِيَّةَ الْمَشْهُورَةَ: يَا عَمْرُو مُنْذُ كَمْ تَعَبَّدْتُمُ النَّاسَ وَقَدْ وَلَدَتْهُمْ أُمَّهَاتُهُمْ أَحْرَارًا؟ وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا تَرَكُوا حُكْمَ الْإِسْلَامِ صَارُوا يَطْلُبُونَ مِنَ الْإِنْكِلِيزِ وَمِمَّنْ دُونَ الْإِنْكِلِيزِ أَنْ يُعَلِّمُوهُمُ الْعَدْلَ وَقَوَانِينَهُ! ! .
أَمَّا تَفْسِيرُ الْآيَةِ فَهُوَ مَا تَرَى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) أَيْ إِنَّ جَزَاءَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا ذُكِرَ مَحْصُورٌ فِيمَا يُذْكَرُ بَعْدَهُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّرْتِيبِ وَالتَّوْزِيعِ عَلَى جِنَايَاتِهِمْ وَمَفَاسِدِهِمْ، لِكُلٍّ مِنْهَا مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْعُقُوبَةِ.
وَالْمُحَارَبَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْحَرْبِ، وَهِيَ ضِدُّ السِّلْمِ، وَالسِّلْمُ السَّلَامُ ; أَيِ السَّلَامَةُ مِنَ الْأَذَى وَالضَّرَرِ وَالْآفَاتِ، وَالْأَمْنُ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَالْأَصْلُ فِي مَعْنَى كَلِمَةِ الْحَرْبِ التَّعَدِّي وَسَلْبُ الْمَالِ. لِسَانُ الْعَرَبِ: الْحَرَبُ بِالتَّحْرِيكِ، أَنْ يُسْلَبَ الرَّجُلُ مَالَهُ، حَرَبَهُ يَحْرُبُهُ (بِوَزْنِ طَلَبَ، وَكَذَا بِوَزْنِ تَعِبَ) إِذَا أَخَذَ مَالَهُ، فَهُوَ مَحْرُوبٌ وَحَرِيبٌ، مِنْ قَوْمٍ حَرْبَى وَحُرَبَاءَ، ثُمَّ قَالَ: حَرِيبَةُ الرَّجُلِ مَالُهُ الَّذِي يَعِيشُ بِهِ، وَالْحَرَبُ بِالتَّحْرِيكِ أَخْذُ الْحَرِيبَةِ ; فَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ وَيَتْرُكَهُ بِلَا شَيْءٍ يَعِيشُ بِهِ، انْتَهَى. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْحَرْبَ وَالْمُحَارَبَةَ لَيْسَ مُرَادِفًا لِلْقَتْلِ وَالْمُقَاتَلَةِ، وَإِنَّمَا الْأَصْلُ فِيهَا الِاعْتِدَاءُ وَالسَّلْبُ وَإِزَالَةُ الْأَمْنِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِقَتْلٍ وَقِتَالٍ، وَبِدُونِهِمَا. وَقَدْ ذُكِرَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ فِي الْقُرْآنِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ آيَةٍ. وَأَمَّا الْمُحَارَبَةُ فَلَمْ تُذْكَرْ إِلَّا فِي هَذِهِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي بَيَانِ عِلَّةِ بِنَاءِ الْمُنَافِقِينَ لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ: (وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) (٩: ١٠٧) . قَالَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ: أَيْ تَرَقُّبًا وَانْتِظَارًا لِلَّذِي حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ، مِنْ قَبْلِ بِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ، وَهُوَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ
;
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute