للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(فَصَلٌ فِي التَّوَسُّلِ وَالْوَسِيلَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ) بَيَّنَّا مَعْنَى الْوَسِيلَةِ فِي الْآيَةِ، وَمَا قَالَهُ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ فِيهَا، وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْ صَحَابِيٍّ وَلَا تَابِعِيٍّ وَلَا أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ أَوْ عَامَّتِهِمْ أَنَّ الْوَسِيلَةَ إِلَى اللهِ تَعَالَى تُبْتَغَى بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ، وَمِنْهُ الدُّعَاءُ، إِلَّا كَلِمَةً رُوِيَتْ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، لَمْ تَصِحَّ عَنْهُ، بَلْ صَحَّ عَنْهُ مَا يُنَافِيهَا، وَقَدْ حَدَثَ فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى التَّوَسُّلُ بِأَشْخَاصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ الْمُتَّقِينَ ; أَيْ تَسْمِيَتُهُمْ وَسَائِلَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالْإِقْسَامُ عَلَى اللهِ بِهِمْ، وَطَلَبُ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَدَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ مِنْهُمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ أَوْ فِي حَالِ الْبُعْدِ عَنْهَا، وَشَاعَ هَذَا وَكَثُرَ حَتَّى صَارَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسُ يَدْعُونَ أَصْحَابَ الْقُبُورِ فِي حَاجَاتِهِمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَوْ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، وَ " الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ " - كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا) (٧٢: ١٨) وَيَقُولُ: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مَنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) (٧: ١٩٤) وَيَقُولُ: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (٣٥: ١٣، ١٤) لَكِنَّ بَعْضَ الْمُصَنِّفِينَ زَعَمَ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيَسْتَجِيبُونَ لِلدَّاعِي، وَالْعَوَامُّ يَأْخُذُونَ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى؛ لِعُمُومِ الْجَهْلِ. وَمِنَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مَنْ يَتَأَوَّلُ لَهُمْ بِأَنَّ هَذَا مِنَ التَّوَسُّلِ بِهِمْ، وَقَدْ حَقَّقَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَةَ الْمَوْضُوعَ بِجَمِيعِ فُرُوعِهِ، فَكَانَ مَا كَتَبَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا حَافِلًا أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ (قَاعِدَةٌ جَلِيلَةٌ فِي التَّوَسُّلِ وَالْوَسِيلَةِ) وَقَدْ طَبَعْنَاهُ مَرَّتَيْنِ، وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ بَعْدَ بَيَانِ مَعْنَى الْوَسِيلَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ:

" وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّوَجُّهُ بِهِ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ، فَيُرِيدُونَ بِهِ التَّوَسُّلَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَالتَّوَسُّلُ بِهِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، يُرَادُ بِهِ الْإِقْسَامُ بِهِ وَالسُّؤَالُ بِهِ، كَمَا يُقْسِمُونَ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَمَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الصَّلَاحَ.

" وَحِينَئِذٍ فَلَفْظُ التَّوَسُّلِ بِهِ يُرَادُ بِهِ مَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُرَادُ بِهِ مَعْنًى ثَالِثٌ لَمْ تَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ، فَأَمَّا الْمَعْنَيَانِ الْأَوَّلَانِ الصَّحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَأَحَدُهُمَا

هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ، وَالثَّانِي دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَهَذَانِ جَائِزَانِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: " اللهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا "؛ أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) أَيِ الْقُرْبَةَ إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ طَاعَتُهُ، قَالَ تَعَالَى:

<<  <  ج: ص:  >  >>