للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) (٤: ٨٠) . فَهَذَا التَّوَسُّلُ الْأَوَّلُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَهَذَا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ، فَإِنَّهُ تَوَسُّلٌ بِدُعَائِهِ لَا بِذَاتِهِ، وَلِهَذَا عَدَلُوا عَنِ التَّوَسُّلِ بِهِ إِلَى التَّوَسُّلِ بِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ، وَلَوْ كَانَ التَّوَسُّلُ هُوَ بِذَاتِهِ لَكَانَ هَذَا أَوْلَى مِنَ التَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ، فَلَمَّا عَدَلُوا عَنِ التَّوَسُّلِ بِهِ إِلَى التَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ عُلِمَ أَنَّ مَا يَفْعَلُ فِي حَيَاتِهِ قَدْ تَعَذَّرَ بِمَوْتِهِ، بِخِلَافِ التَّوَسُّلِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالطَّاعَةُ لَهُ ; فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ دَائِمًا.

" فَلَفَظُ التَّوَسُّلِ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ (أَحَدُهَا) : التَّوَسُّلُ بِطَاعَتِهِ، فَهَذَا فَرْضٌ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ (وَالثَّانِي) : التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَهَذَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ وَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَتَوَسَّلُونَ بِشَفَاعَتِهِ (وَالثَّالِثُ) : التَّوَسُّلُ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ عَلَى اللهِ بِذَاتِهِ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَمْ تَكُنِ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ، لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ، لَا عِنْدَ قَبْرِهِ، وَلَا غَيْرِ قَبْرِهِ، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَدْعِيَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا يُنْقَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ ; مَرْفُوعَةٍ وَمَوْقُوفَةٍ، أَوْ عَمَّنْ لَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً، كَمَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

" وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَنَهَوْا عَنْهُ ; حَيْثُ قَالُوا: لَا يُسْأَلُ بِمَخْلُوقٍ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: أَسْأَلُكَ بِحَقِّ أَنْبِيَائِكَ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ فِي الْفِقْهِ الْمُسَمَّى بِشَرْحِ الْكَرْخِيِّ فِي بَابِ الْكَرَاهَةِ: وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ إِلَّا بِهِ، وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ، أَوْ بِحَقِّ خَلْقِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِهِ، هُوَ اللهُ، فَلَا أَكْرَهُ هَذَا، وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ بِحَقِّ فُلَانٍ أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَائِكَ

وَرُسُلِكَ، وَبِحَقِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، قَالَ الْقُدُورِيُّ: الْمَسْأَلَةُ بِحَقِّهِ لَا تَجُوزُ ; لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْخَلْقِ عَلَى الْخَالِقِ ; فَلَا تَجُوزُ وِفَاقًا.

" وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَنَّ اللهَ لَا يُسْأَلُ بِمَخْلُوقٍ، لَهُ مَعْنَيَانِ (أَحَدُهُمَا) : هُوَ مُوَافِقٌ لِسَائِرِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ أَنْ يُقْسِمَ أَحَدٌ بِالْمَخْلُوقِ، فَإِنَّهُ إِذَا مُنِعَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى مَخْلُوقٍ بِمَخْلُوقٍ، فَلَأَنْ يُمْنَعَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْخَالِقِ بِمَخْلُوقٍ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَهَذَا بِخِلَافِ إِقْسَامِهِ، سُبْحَانَهُ، بِمَخْلُوقَاتِهِ ; كَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَإِنَّ إِقْسَامَهُ بِمَخْلُوقَاتِهِ يَتَضَمَّنُ مِنْ ذِكْرِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ مَا يَحْسُنُ مَعَهُ إِقْسَامُهُ، بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ إِقْسَامَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ شِرْكٌ بِخَالِقِهَا، كَمَا فِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ ". وَقَدْ

<<  <  ج: ص:  >  >>