للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (٢٨: ٥٦) وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ دَعْوَةً وَاحِدَةً مُسْتَجَابَةً قَطْعًا، فَمَا عَدَاهَا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ ; وَلِذَلِكَ خَبَّأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَوْتَهُ لِيَشْفَعَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتَعْلَمُ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا، وَالْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا، أَنَّ دُعَاءَ غَيْرِكَ لَكَ لَا يَطَّرِدُ نَفْعُهُ مَهْمَا كَانَ الدَّاعِي صَالِحًا، فَهَلْ يَكُونُ شَخْصٌ غَيْرُكَ وَسِيلَةً وَقُرْبَةً لَكَ إِلَى اللهِ، وَإِنْ لَمْ يَدْعُ لَكَ؟ هَذَا شَيْءٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا عَقْلٌ إِنْ جَازَ أَنْ يُحَكَّمَ الْعَقْلُ فِي قُرُبَاتِ الشَّرْعِ. فَالْعُمْدَةُ فِي تَقَرُّبِ الْإِنْسَانِ إِلَى اللهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ وَحُسْنِ جَزَائِهِ هُوَ إِيمَانُهُ وَعَمَلُهُ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْمَلْ لِنَفْسِكَ مَا شَرَعَهُ اللهُ لَكَ وَجَعَلَهُ سَبَبَ فَلَاحِكَ، وَلَمْ يَدْعُ لَكَ غَيْرُكَ بِذَلِكَ؛ فَكَيْفَ تَكُونُ قَدِ ابْتَغَيْتَ إِلَى اللهِ الْوَسِيلَةَ؟ وَهَلْ تَسْمِيَتُكَ بَعْضَ عِبَادِ اللهِ الْمُكْرَمِينَ وَسِيلَةٌ؟ أَوْ طَلَبُكَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَشْفَعَ لَكَ - أَيْ يَدْعُو لَكَ - يُعَدُّ امْتِثَالًا مِنْكَ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) ؟ كَلَّا! إِنَّ الطَّلَبَ مِنَ الْمَيِّتِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. وَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ وَمَسْمُوعٌ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ هَلْ كَانَ مَقْبُولًا أَمْ غَيْرَ مَقْبُولٍ! فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ الْغَيْبِيِّ، " وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ " وَحْدَهُ، وَمِنْهُ أَمْرُ الشَّفَاعَةِ، فَهِيَ لَا تُنَالُ بِالسُّؤَالِ هُنَا، وَإِنَّمَا تُفَوَّضُ إِلَيْهِ تَعَالَى (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا) (٣٩: ٤٤) (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢: ٢٥٥) (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٢١: ٢٨) . فَسُنَّةُ الْفِطْرَةِ فِي الدُّنْيَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَشْبَعُ إِذَا أَكَلَ عِنْدَهُ وَالِدُهُ أَوْ أُسْتَاذُهُ أَوْ أَحَدُ الصَّالِحِينَ، وَلَا يُشْفَى مِنْ مَرَضِهِ إِذَا تَرَكَ الدَّوَاءَ وَشَرِبَهُ غَيْرُهُ عَنْهُ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ أَوْ تَظْهَرُ فِي أَعْمَالِهِ أَخْلَاقُ غَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ أَوِ الْوَلِيُّ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَيْهِ جَوَادًا سَخِيًّا شُجَاعًا أَمِينًا، لَا يَبْذُلُ هُوَ الْمَالَ بِذَلِكَ السَّخَاءِ، وَلَا النَّفْسَ بِتِلْكَ الشَّجَاعَةِ، وَلَا يُؤَدِّي الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا بِتِلْكَ الْأَمَانَةِ ; لِأَنَّ أَعْمَالَهُ تَصْدُرُ عَنْ أَخْلَاقِهِ، لَا عَنْ أَخْلَاقِ الرَّسُولِ أَوِ الْوَلِيِّ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ فِي الدُّنْيَا

أَلَّا تَعِيشَ بِأَخْلَاقِ غَيْرِكَ، وَلَا بِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ، وَهِيَ دَارُ الْكَسْبِ وَالتَّعَاوُنِ، فَكَيْفَ يَنْفَعُكَ إِيمَانُ غَيْرِكَ وَصَلَاحُهُ (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٨٢: ١٩) ؟

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ يُؤَكِّدُ مَضْمُونَ مَا قَبْلَهُ مِنْ كَوْنِ مَدَارِ الْفَوْزِ وَالْفَلَاحِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَقْوَى اللهِ وَالتَّوَسُّلِ إِلَيْهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَهُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ. فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ مَدَارَ النَّجَاةِ وَالْفَلَاحِ عَلَى مَا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، لَا عَلَى مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهَا، كَمَا يَتَوَهَّمُ الْكُفَّارُ فِي أَمْرِ الْفِدْيَةِ، فَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينِ كَفَرُوا جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، وَبَذَلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً لِيَكُونَ فِدَاءً لَهُمْ يَفْتَدُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يُصِيبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَتَقَبَّلُهُ اللهُ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَلَا يُنْقِذُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ ; لِأَنَّ سُنَّتَهُ الْحَكِيمَةَ قَدْ مَضَتْ بِأَنَّ سَبَبَ الْفَلَاحِ وَالنَّجَاةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>