أَطَبِيعَةٌ ذَا الْحُزْنِ لَيْسَ يَشِذُّ عَنْ ... نَامُوسِهِ فَرْدٌ مِنَ الْأَفْرَادِ
أَمْ ذَاكَ مِمَّا أَوْدَعَتْهُ شَرَائِعُ الْـ ... أَدْيَانِ مِنْ هَدْيٍ لَنَا وَرَشَادِ
أَمْ ذَلِكَ الْعَقْلُ السَّلِيمُ قَضَى عَلَى ... كُلِّ الشُّعُوبِ بِهَذِهِ الْأَصْفَادِ
كَلَّا فَلَيْسَ الْأَمْرُ ضَرْبَةَ لَازِبٍ ... لَكِنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْمُعْتَادِ
فَاخْلَعْ جَلَابِيبَ الْعَوَائِدِ إِنْ تَكُنْ ... لَيْسَتْ بِحُكْمِ الْعَقْلِ ذَاتَ سَدَادِ
يُقَالُ: سَارِعْ إِلَى الشَّيْءِ (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (٣: ١٣٣) وَسَارِعْ فِي الشَّيْءِ (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) (٣٣: ٦١) فَالْمُسَارِعُ إِلَى الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يُسْرِعُ إِلَيْهِ مِنْ خَارِجِهِ لِأَجْلِ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ، وَالْمُسَارِعُ فِي الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يُسْرِعُ فِي أَعْمَالِهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِيهِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ مَا عَمِلُوا مِنْ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ انْتِقَالًا بِسُرْعَةٍ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ، بَلْ كَانُوا دَاخِلِينَ فِي ظَرْفِ الْكُفْرِ، مُحِيطًا بِهِمْ سُرَادِقُهُ، وَإِنَّمَا انْتَقَلُوا سِرَاعًا مِنْ حَيِّزِ الْإِخْفَاءِ لَهُ وَالْكِتْمَانِ إِلَى حَيِّزِ الْمُصَارَحَةِ وَالْإِعْلَانِ، كَالَّذِي يَنْتَقِلُ فِي الْبَيْتِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي الْوَقْفِ هُنَا، هَلْ يَتِمُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلُوبُهُمْ) أَمْ قَوْلِهِ: (هَادُوا) ؟ أَمَّا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ عَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ، وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ تَقْدِيرُهَا: وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا (أَيِ الْيَهُودِ) قَوْمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ. . . إِلَخْ. وَأَمَّا التَّقْدِيرُ عَلَى الثَّانِي فَهُوَ: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ حُذِفَ مِنْهَا الْمُبْتَدَأُ ; أَيْ هُمْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ. . . إِلَخْ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا مُنَافِقُو الْيَهُودِ ; فَيَكُونُ الْكَلَامُ هُنَا فِي أُولَئِكَ الْيَهُودِ عَامَّةً، الَّذِينَ أَظْهَرُو الْإِسْلَامَ نِفَاقًا وَالَّذِينَ ظَلُّوا عَلَى دِينِهِمْ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْأَوَّلِ الْمُنَافِقُونَ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ عَلَى قَاعِدَةِ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) هَلْ هُوَ وَصْفٌ لِلْفَرِيقَيْنِ أَمْ لِأَحَدِهِمَا؟ أَيْ
بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: (سَمَّاعُونَ) . . . إِلَخْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: (لِلْكَذِبِ) فِيهَا وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهَا لِلتَّقْوِيَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ كَثِيرًا سَمَاعَ قَبُولٍ، أَوْ يَقْبَلُونَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْكَذِبِ: مَا يَقُولُهُ رُؤَسَاؤُهُمْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أَحْكَامِ الدِّينِ الَّتِي يَتَلَاعَبُونَ فِيهَا بِأَهْوَائِهِمْ. (وَثَانِيهَا) : أَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَثِيرُو الِاسْتِمَاعِ لِكَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute