للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِأَجْلِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ بِالتَّحْرِيفِ وَاسْتِنْبَاطِ الشُّبُهَاتِ، فَهُمْ عُيُونٌ وَجَوَاسِيسُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يُبَلِّغُونَ رُؤَسَاءَهُمْ وَسَائِرَ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ كُلَّ مَا يَقِفُونَ عَلَيْهِ، لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَذِبِ مَقْبُولًا ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وَقَائِعَ وَمَسَائِلَ وَاقِعَةٍ يَزِيدُونَ فِي رِوَايَاتِهَا وَيُنْقِصُونَ، وَيُحَرِّفُونَ مِنْهَا مَا يُحَرِّفُونَ، وَمَنْ يَكْذِبُ عَلَيْكَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مِنْ أَمْرِكَ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجْعَلَ كَذِبَهُ مَرْجُوَّ الْقَبُولِ كَمَنْ يَعْرِفُ، بَلْ يَظْهَرُ اخْتِلَاقُهُ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَلِهَذَا تَرَى الَّذِينَ يَفْتَرُونَ الْكَذِبَ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَقْرَءُونَ بَعْضَ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ ; لِيَبْنُوا أَكَاذِيبَهُمْ عَلَى مَسَائِلَ مَعْرُوفَةٍ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ فِيهَا عَنْ مَوَاضِعِهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي وَصْفِ هَؤُلَاءِ، كَالَّذِي افْتَرَوْهُ فِي قِصَّةِ زَيْدٍ وَزَيْنَبَ، وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الْوَقَائِعِ وَالْأَخْبَارِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) أَيْ لِأَجْلِ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، وَذَوِي الْكَيْدِ فِيهِمْ، أَوْ مِنْ أَعْدَائِكَ مُطْلَقًا، لَمْ يَأْتُوكَ لِيَسْمَعُوا مِنْكَ بِآذَانِهِمْ ; إِمَّا كِبْرًا وَتَمَرُّدًا، وَإِمَّا خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ مُعْلِنُونَ لِلْعَدَاوَةِ.

أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ فِي قَوْلِهِ: (وَمِنَ الَّذِينَ هَادَوْا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) قَالَ: يَهُودُ الْمَدِينَةِ.

(سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) قَالَ: يَهُودُ فَدَكَ.

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) قَالَ: يَهُودُ فَدَكَ يَقُولُونَ لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ: (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا) الْجَلْدَ (فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) الرَّجْمُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) فَمَعْنَاهُ يُحَرِّفُونَ كَلِمَ التَّوْرَاةِ مِنْ بَعْدِ وَضْعِهِ فِي مَوَاضِعِهِ ; إِمَّا تَحْرِيفًا لَفْظِيًّا بِإِبْدَالِ كَلِمَةٍ بِكَلِمَةٍ، أَوْ بِإِخْفَائِهِ وَكِتْمَانِهِ، أَوِ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنَّقْصِ مِنْهُ، وَإِمَّا تَحْرِيفًا مَعْنَوِيًّا بِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ.

(يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أَيْ يَقُولُونَ لِمَنْ أَرْسَلُوهُمْ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْأَلُوهُ عَنْ حُكْمِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا مِنْهُمْ، وَأَرَادُوا أَنْ يُحَابُوهُمَا

بِعَدَمِ رَجْمِهِمَا: إِنْ أُعْطِيتُمْ مِنْ قِبَلِ مُحَمَّدٍ رُخْصَةً بِالْجَلْدِ عِوَضًا عَنِ الرَّجْمِ فَخُذُوهُ وَارْضَوْا بِهِ، وَإِنْ لَمْ تُعْطَوْهُ بِأَنْ حَكَمَ بِأَنَّهُمَا يُرْجَمَانِ فَاحْذَرُوا قَبُولَ ذَلِكَ وَالرِّضَاءَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ جَاءُوهُ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَدِّ الزُّنَاةِ فِي التَّوْرَاةِ، فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ، وَجَاءُوا بِالتَّوْرَاةِ فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَاعْتَرَفُوا بِصِدْقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَظَهَرَ كَذِبُهُمْ وَعَبَثُهُمْ بِكِتَابِ شَرِيعَتِهِمْ. وَالْإِيتَاءُ وَالْإِعْطَاءُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي كَغَيْرِهَا.

قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِ هَؤُلَاءِ الْعَابِثِينَ بِدِينِهِمْ وَفِي أَمْثَالِهِمْ: (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا) أَيْ وَمَنْ تَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ يُخْتَبَرَ فِي دِينِهِ فَيُظْهِرَ الِاخْتِبَارُ كُفْرَهُ وَضَلَالَهُ، كَمَا يُفْتَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ، فَيَظْهَرُ مِقْدَارُ مَا فِيهِ مِنَ الْغِشِّ وَالزَّغَلِ، فَلَنْ تَمْلِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>