للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَلِمَ أَنَّ عَمَلَهُ يَضُرُّ الْمَسْلِمِينَ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، بَلْ يَكُونُ نَفْعُهُ مَحْصُورًا فِي غَيْرِهِمْ، وَمُعِينًا لِلْمُتَغَلِّبِ عَلَى الْإِجْهَازِ عَلَيْهِمْ. وَإِذَا هُوَ تَوَلَّى لَهُمُ الْعَمَلَ وَكُلِّفَ الْحُكْمَ بِقَوَانِينِهِمْ فَمَاذَا يَفْعَلُ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ؟ أَقُولُ: إِنَّ الْأَحْكَامَ الْمُنَزَّلَةَ مِنَ اللهِ تَعَالَى مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ نَفْسِهِ ; كَأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَهِيَ لَا تَحِلُّ مُخَالَفَتُهَا بِحَالٍ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الدُّنْيَا ; كَالْعُقُوبَاتِ وَالْحُدُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ، وَالْمُنَزَّلُ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ قَلِيلٌ، وَأَكْثَرُهَا مَوْكُولٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَأَهَمُّ الْمُنَزَّلِ وَآكَدُهُ الْحُدُودُ فِي الْعُقُوبَاتِ - وَسَائِرُ الْعُقُوبَاتِ تَعْزِيرٌ

مُفَوَّضٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ - وَالرِّبَا فِي الْأَحْكَامِ الْمَدَنِيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ النَّهْيُ عَنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَأَجَازَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ الرِّبَا فِيهَا، بَلْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جَمِيعَ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ جَائِزَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِمُنَاحَبَةِ (مُرَاهَنَةِ) أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ عَلَى أَنَّ الرُّومَ يَغْلِبُونَ الْفُرْسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، وَإِجَازَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَصَرَّحُوا بِعَدَمِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَحُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. قَالَ فِي أَعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ: " وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ لَا تُقَامُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَذَكَرَهَا أَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، فَقَالَ: لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مُسْلِمٍ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ. وَقَدْ أُتِيَ بُسْرُ بْنُ أَرْطَأَةَ بِرَجُلٍ مِنَ الْغُزَاةِ قَدْ سَرَقَ مِجَنَّةً، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِيَ فِي الْغَزْوِ لَقَطَعْتُكَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ: وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى النَّاسِ أَلَّا يَجْلِدُوا أَمِيرَ جَيْشٍ وَلَا سَرِيَّةٍ، وَلَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَدًّا، وَهُوَ غَازٍ، حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلًا ; لِئَلَّا تَلْحَقَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ، فَيَلْحَقَ بِالْكُفَّارِ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ تَرْكَ سَعْدٍ إِقَامَةَ حَدِّ السُّكْرِ عَلَى أَبِي مِحْجَنٍ فِي وَقْعَةِ الْقَادِسِيَّةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ لَا حَدَّ عَلَى مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَكِنْ عَلَّلَهُ تَعْلِيلًا آخَرَ، لَيْسَ هَذَا مَحَلُّ ذِكْرِهِ، وَانْظُرْ تَعْلِيلَ عُمَرَ تَجِدْهُ يَصِحُّ فِي بِلَادِ الْحَرْبِ.

فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْقَضَائِيَّةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى قَلِيلَةٌ جِدًّا، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا قِيلَ فِي إِقَامَتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِذَا كَانَتِ الْحُدُودُ لَا تُقَامُ هُنَاكَ فَقَدْ عَادَتْ أَحْكَامُ الْعُقُوبَاتِ كُلُّهَا إِلَى التَّعْزِيرِ الَّذِي يُفَوَّضُ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، وَالْأَحْكَامُ الْمَدَنِيَّةُ أَوْلَى بِذَلِكَ ; لِأَنَّهَا اجْتِهَادِيَّةٌ أَيْضًا، وَالنُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ فِيهَا عَنِ الشَّارِعِ قَلِيلَةٌ جِدًّا، وَإِذَا رَجَعَتِ الْأَحْكَامُ هُنَاكَ إِلَى الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِي تَحَرِّي الْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَأَجَزْنَا لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا عِنْدَ الْحَرْبِيِّ فِي بِلَادِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ مِنَ الْحُكْمِ بِقَانُونِهِ لِأَجْلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>