للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَصْلَحَتِهِمْ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَانُونُ ضَارًّا بِالْمُسْلِمِينَ ظَالِمًا لَهُمْ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ، وَلَا أَنْ يَتَوَلَّى الْعَمَلَ لِوَاضِعِهِ إِعَانَةً لَهُ.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَيْسَتْ مَحِلًّا لِإِقَامَةِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ؛ وَلِذَلِكَ تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْهَا إِلَّا لِعُذْرٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ يُؤْمَنُ مَعَهَا مِنَ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، وَعَلَى مَنْ أَقَامَ أَنْ يَخْدِمَ الْمُسْلِمِينَ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ، وَيُقَوِّيَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ، وَلَا وَسِيلَةَ لِتَقْوِيَةِ نُفُوذِ الْإِسْلَامِ وَحِفْظِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ تَقَلُّدِ أَعْمَالِ الْحُكُومَةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتِ الْحُكُومَةُ مُتَسَاهِلَةً قَرِيبَةً مِنَ الْعَدْلِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ كَالْحُكُومَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ قَوَانِينَ هَذِهِ الدَّوْلَةِ أَقْرَبُ إِلَى الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ غَيْرِهَا ; لِأَنَّهَا تُفَوِّضُ أَكْثَرَ الْأُمُورِ إِلَى اجْتِهَادِ الْقُضَاةِ، فَمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ فِي الْإِسْلَامِ وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ فِي الْهِنْدِ بِصِحَّةِ قَصْدٍ وَحُسْنِ نِيَّةٍ يَتَيَسَّرُ لَهُ أَنْ يَخْدُمَ الْمُسْلِمِينَ خِدْمَةً جَلِيلَةً، وَظَاهِرٌ أَنَّ تَرْكَ أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْغَيْرَةِ لِلْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْحُكُومَةِ ; تَأَثُّمًا مِنَ الْعَمَلِ بِقَوَانِينِهَا، يُضَيِّعُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُعْظَمَ مَصَالِحِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَمَا نُكِبَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْهِنْدِ وَنَحْوِهَا وَتَأَخَّرُوا عَنِ الْوَثَنِيِّينَ إِلَّا بِسَبَبِ الْحِرْمَانِ مِنْ أَعْمَالِ الْحُكُومَةِ، وَلَنَا الْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ بِمَا يَجْرِي عَلَيْهِ الْأُورُبِّيُّونَ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ; إِذْ يَتَوَسَّلُونَ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ إِلَى تَقَلُّدِ الْأَحْكَامِ، وَمَتَى تَقَلَّدُوهَا حَافَظُوا عَلَى مَصَالِحِ أَبْنَاءِ مِلَّتِهِمْ وَجِنْسِهِمْ، حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ أَنْ صَارُوا أَصْحَابَ السِّيَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِيهَا، وَصَارَ حُكَّامُهَا الْأَوَّلُونَ آلَاتٍ فِي أَيْدِيهِمْ.

وَالظَّاهِرُ مَعَ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ قَبُولَ الْمُسْلِمِ لِلْعَمَلِ فِي الْحُكُومَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ فِي الْهِنْدِ (وَمِثْلِهَا مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ) وَحُكْمَهُ بِقَانُونِهَا هُوَ رُخْصَةٌ تَدْخُلُ فِي قَاعِدَةِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَزِيمَةً يُقْصَدُ بِهَا تَأْيِيدُ الْإِسْلَامِ وَحِفْظُ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ. ذَلِكَ أَنْ تَعُدَّهُ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نُفِّذَ بِهَا حُكْمُ الْإِمَامِ الَّذِي فَقَدَ أَكْثَرَ شُرُوطَ الْإِمَامَةِ، وَالْقَاضِيَ الَّذِي فَقَدَ أَهَمَّ شُرُوطِ الْقَضَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَجَمِيعُ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ حُكَّامُ ضَرُورَةٍ، وَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ تَقَلَّدَ الْعَمَلَ لِلْحَرْبِيِّ لِأَجْلِ أَنْ يَعِيشَ بِرَاتِبِهِ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الرُّخْصَةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَزِيمَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ) : دَارُ الْحَرْبِ بِلَادُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يُحَارِبُوا. وَكَانَتِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُعَاهِدْنَا عَلَى السِّلْمِ يُعَدُّ مُحَارِبًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>