للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَقْلِيدٌ، وَالْعَقَائِدُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِالْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَوِ السَّمْعِ، وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ التَّقْلِيدَ فِي كِتَابِهِ، فَلَا يَقْبَلُهُ مِنْ آحَادِ النَّاسِ، فَكَيْفَ يَأْمُرُ بِهِ خَاتَمَ الْمُرْسَلِينَ، الَّذِي هُوَ مَقَامُ حَقِّ الْيَقِينِ؟ وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ عَالِمًا بِالْعَقَائِدِ دَاعِيًا إِلَيْهَا، وَلَا مَعْنًى لِأَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ بِالِاقْتِدَاءِ أَمْرًا بِالثَّبَاتِ عَلَيْهَا، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاقْتِدَاءِ هُنَا مُوَافَقَةُ سُنَّتِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ فِي دَعْوَةِ أَقْوَامِهِمْ إِلَى الدِّينِ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خَلَائِقِهِمُ الْحَسَنَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى فِي سِيرَتِهِمْ، كَمَا قَالَ: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) (١١: ١٢٠) وَقَالَ تَعَالَى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) (٤٦: ٣٥) أَيْ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لِقَوْمِكَ الْعَذَابَ، كَمَا اسْتَعْجَلَ بَعْضُهُمْ، وَلَوْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا لَدَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (١: ٦) أَيْضًا، وَلَكُنَّا مَأْمُورِينَ بِأَنْ نَتَّبِعَ مَنْ دُونِ النَّبِيِّينَ مِنَ الصَّدِيقَيْنِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ

شَرَائِعِهِمْ، وَجُزْئِيَّاتِ أَعْمَالِهِمْ. كَلَّا، إِنَّ الْمُرَادَ بِالْهِدَايَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، هِدَايَةُ الْقُلُوبِ بِمَا وَفَّقَهَا اللهُ لَهُ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَنُورِ الْبَصِيرَةِ وَحُبِّ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَتَحَرِّيهِمَا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى ; فَهُمْ بِهَذَا كَانُوا مُهْتَدِينَ، وَهَذَا هُدَاهُمْ وَصِرَاطُهُمْ، لَا أَحْكَامُ الشَّرَائِعِ الَّتِي خُوطِبَ بِهَا مَنْ عَمِلَ بِهَا وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ.

لَعَمْرِي إِنَّ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاضِحٌ كَالصُّبْحِ، بَلْ هُوَ أَوْضَحُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُصَنِّفِينَ الْمُقَلِّدِينَ جَرَوْا عَلَى سُنَّةٍ سَيِّئَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَأْخُذُوا أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِمْ قَضَايَا مُسَلَّمَةً، وَيَلْتَمِسُونَ الدَّلَائِلَ لِإِثْبَاتِهَا وَإِبْطَالِ مَا خَالَفَهَا دَلِيلًا وَمَدْلُولًا، وَلَوْ بِالتَّمَحُّلِ وَالتَّأَوُّلِ وَالِاحْتِمَالِ ; فَالْأَدِلَّةُ عِنْدَهُمْ تَابِعَةٌ لَا مَتْبُوعَةٌ، فَمَا وَافَقَ الْأَصْلَ الْمُسَلَّمَ عِنْدَهُمْ وَلَوْ بَادِيَ الرَّأْيِ قَبِلُوهُ، وَمَا خَالَفَهُ وَأَبْطَلَهُ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ، أَوْ حَرَّفُوهُ وَتَأَوَّلُوهُ، وَإِلَّا فَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ اللهَ قَدْ أَكْمَلَ الدِّينَ بِدِينِنَا، وَخَتَمَ النَّبِيِّينَ بِنَبِيِّنَا، وَأَرْسَلَهُ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَكَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَأَنَّ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ قَبْلَهُ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً، وَشَرِيعَتُهُ هِيَ الشَّرِيعَةُ الدَّائِمَةُ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، لَمْ تَكُنْ مَحَلَّ خِلَافٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ وَلَا بَيْنَ الْأَفْرَادِ، وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْكَامِلَةَ السَّمْحَةَ صَالِحَةٌ لِكُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ، وَحِكْمَةُ نَسْخِ الشَّرَائِعِ الْمَاضِيَةِ عَدَمُ صَلَاحِيَتِهَا لِغَيْرِ أَهْلِهَا، وَعَدَمِ صَلَاحِيَتِهَا لِلدَّوَامِ فِي أَهْلِهَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا جُمْلَةُ مَا فِي الْأَيْدِي مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَكُلُّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِمَا يَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لِلْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِإِقَامَتِهِمَا ; فَشِدَّةُ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْقِتَالِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَعْمَلَ بِهِ أُمَّةٌ، وَلِشِدَّةِ أَحْكَامِ الْإِنْجِيلِ فِي الزُّهْدِ وَتَرْكِ الدُّنْيَا، وَالْخُضُوعِ لِكُلِّ حَاكِمٍ وَكُلِّ مُعْتَدٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ أُمَّةٌ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الشَّرَائِعُ الْخَاصَّةُ الْمَوْقُوتَةُ، الَّتِي نَسَخَتْهَا شَرِيعَتُنَا لِإِكْمَالِ

<<  <  ج: ص:  >  >>