الدِّينِ بِمَا يُنَاسِبُ ارْتِقَاءَ الْبَشَرِ، شَرِيعَةً دَائِمَةً لَنَا يَجِبُ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِهَا، وَأَنْ يُعَدَّ هَذَا أَصْلًا مِنْ أُصُولِنَا؟ يَا ضَيْعَةَ الْوَقْتِ الَّذِي نَصْرِفُهُ فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ، بَلْ يَا ضَيْعَةَ الْحِبْرِ وَالْوَرَقِ الَّذِي يُصْرَفُ فِي سَبِيلِهِ، لَوْلَا أَنَّهُ صَارَ ضَرُورِيًّا بِتِلْكَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي فُتِنَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْأَذْكِيَاءِ ; كَالسَّعْدِ التَّفْتَازَانِيِّ وَأَضْرَابِهِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ وَاحِدٌ فِي أُصُولِهِ وَمَقَاصِدِهِ،
وَهِيَ تَوْحِيدُ اللهِ وَتَنْزِيهُهُ وَإِثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ، وَالْإِخْلَاصُ لَهُ فِي الْأَعْمَالِ، وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَمَّا الشَّرَائِعُ فَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، وَمُوَافَقَتُهُ لِبَعْضِ الشَّرَائِعِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَمُوَافَقَتِهِ لِبَعْضِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ فِي كَوْنِهَا لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِشَرْعِهَا لَنَا، كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَانِعًا، فَإِنَّمَا كُنَّا مُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ بِنُزُولِهَا عَلَيْنَا، لَا بِكَوْنِهَا شُرِعَتْ لِمَنْ قَبْلَنَا، وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُخَالَفَةَ الْيَهُودِ بَعْدَ نُزُولِ الْكَثِيرِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ فِي الْمَدِينَةِ، حَتَّى فِي عَمَلِ الْبِرِّ الدَّاخِلِ فِي عُمُومِ شَرِيعَتِنَا وَشَرِيعَتِهِمْ ; كَصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ ; إِذْ كَانَ يَصُومُهُ فَلَمَّا قِيلَ لَهُ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُعَظِّمُونَهُ، أَوِ الْيَهُودَ يَصُومُونَهُ، قَالَ: " لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَإِنَّمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَتَهُمْ، اجْتِهَادًا قَبْلَ نُزُولِ الْأَحْكَامِ التَّفْصِيلِيَّةِ فِي مَكَّةَ. وَمَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، إِلَّا لِعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَصْلِ الدِّينِ وَالْمِلَّةِ، وَبَيْنَ الشَّرِيعَةِ ; لِأَنَّ الْجُمْهُورَ يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ اسْتِعْمَالَ الْمُتَرَادِفَاتِ، وَالتَّحْقِيقُ الْفَرْقُ - كَمَا قَالَ قَتَادَةَ - وَعَرَفْتَ تَفْصِيلَهُ.
يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) فَإِنَّ اللهَ سَمَّى الْإِسْلَامَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَامْتَنَّ عَلَى الْعَرَبِ بِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِمِلَّةِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ تَعَالَى: (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٣: ٩٥) وَقَالَ: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (٤: ١٢٥) وَقَالَ: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (٦: ١٦١ - ١٦٣) فَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ بَيَانٌ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لِمَنِ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٦: ١٢٠ - ١٢٣) فَهَذِهِ هِيَ
مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَمَنْ قَبْلَهُ أَيْضًا، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute