للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَعَالَى. وَيَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْوِيضِ: بَلْ نُثْبِتُ لَهُ الْيَدَ، وَنُنَزِّهُهُ

عَنْ لَوَازِمَ هَذَا الْإِطْلَاقِ مِنْ مُشَابَهَةِ النَّاسِ. وَتَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ إِمَامِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَالْخَلْفِ لِلْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ الْخَلْفِ وَالسَّلَفِ فِي التَّأْوِيلِ وَالتَّفْوِيضِ ; لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ غِلِّ الْيَدِ فِي الْبُخْلِ وَبَسْطَهَا فِي الْجُودِ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ مَأْلُوفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطُهَا كُلَّ الْبَسْطِ) (١٧: ٢٩) وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ يَفْهَمُ اللُّغَةَ: إِنَّ هَذَا مِنْ إِخْرَاجِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالتَّأْوِيلِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (غُلَّتَ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) فَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ، يُنَاسِبُ جُرْمَهُمْ هَذَا، وَجَزَاءٌ لَهُمْ بِالطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَعِنَايَتِهِ الْخَاصَّةِ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ ; لِأَنَّهُ مِمَّا تَسْتَشْرِفُ لَهُ النُّفُوسُ، وَتَتَسَاءَلُ عَنْهُ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقُوَّةِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَعْنَى " غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ": أَمْسَكَتْ أَيْدِيهِمْ وَانْقَبَضَتْ عَنِ الْعَطَاءِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِالْبُخْلِ، وَمَا زَالُوا أَبْخَلَ الْأُمَمِ، فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَبْذُلُ شَيْئًا إِلَّا إِذَا كَانَ يَرَى أَنَّ لَهُ مِنْ وَرَائِهِ رِبْحًا، وَقَدْ حَسُنَتْ أَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَارْتَقَتْ مَعَارِفُهُمْ وَحَضَارَتُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ، وَتَرَبَّوْا فِي أُمَمٍ مِنَ الْإِفْرِنْجِ، صَارَ مِنْ تَقَالِيدِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ بَذْلُ الْمَالِ لِمَعَاهِدِ الْعِلْمِ وَالْمَلَاجِئِ وَالْمُسْتَشْفَيَاتِ وَالْجَمْعِيَّاتِ الْخَيْرِيَّةِ، وَهُمْ عَلَى كَوْنِهِمْ أَغْنَى هَذِهِ الْأُمَمِ وَمُضْطَرُّونَ لِمُجَارَاتِهَا لَا يَبْذُلُونَ إِلَّا دُونَ مَا يَبْذُلُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْإِعَانَاتِ الْخَيْرِيَّةِ، بَلْ هُمْ عَلَى شِدَّةِ تَكَافُلِهِمْ وَاسْتِمْسَاكِهِمْ بِالْعَصَبِيَّةِ الْمِلِّيَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، قَلَّمَا يُسَاعِدُ أَغْنِيَاؤُهُمْ فُقَرَاءَهُمْ بِالصَّدَقَةِ الْخَالِصَةِ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى وَحُبًّا فِي الْخَيْرِ، بَلْ يَتَّجِرُونَ وَيُرَابُونَ بِالْإِعَانَاتِ ; فَيُعْطُونَ الْفُقَرَاءَ مَالًا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا بِهِ فِي تِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، بِشَرْطِ أَنْ يَرُدُّوهُ فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، مَعَ رِبًا قَلِيلٍ فِي الْغَالِبِ.

وَقِيلَ: إِنِ الْمُرَادَ بِغِلِّ الْأَيْدِي رَبْطُهَا إِلَى الْأَعْنَاقِ بِالْأَغْلَالِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي النَّارِ أَوْ فِيهِمَا. نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْغِلِّ: يُغَلُّونَ فِي الدُّنْيَا أُسَارَى، وَفِي الْآخِرَةِ مُعَذَّبِينَ بِأَغْلَالِ جَهَنَّمَ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ اللَّعْنَةِ: عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا بِالْجِزْيَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ. حَكَاهُ عَنْهُ نِظَامُ الدِّينِ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَوْرَدَ وَاقِعَةً بِهَذَا الْمَعْنَى حَدَثَتْ فِي زَمَنِهِ، قَالَ: وَمِمَّا وَقَعَ فِي عَصْرِنَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مَا حُكِيَ أَنَّ مُتَغَلِّبًا مِنَ الْيَهُودِ مُسَمَّى بِسَعْدِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ مِنْ أَشْقَى النَّاسِ، كَانَ سَمِعَ

بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَاتَّفَقَ أَنْ وَصَلَ إِلَى بَغْدَادَ، فَنَزَلَ بِالْمَدْرَسَةِ الْمُسْتَنْصِرِيَّةِ، وَدَعَا بِمُصْحَفٍ كَانَ مَكْتُوبًا بِأَحْسَنِ خَطٍّ وَأَشْهَرِهِ مِنْ خُطُوطِ الْكُتَّابِ الْمَاضِينَ، وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ هَذَا الْعَصْرِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى كِتَابَةِ مِثْلِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ هَذِهِ الْآيَةُ؟ يَعْنِي قَوْلُهُ: " غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا " فَأَرَوْهُ إِيَّاهُ، فَمَحَاهَا. فَلَمْ يَمْضِ إِلَّا أُسْبُوعٌ إِلَّا وَقَدْ سَخِطَ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ، وَبَعَثَ فِي طَلَبِهِ، وَأَمْرَ بَغْلِّ يَدَيْهِ فَغَلُّوهُ، وَحَمَلُوهُ إِلَيْهِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>