للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْمُرَادُ أَنَّ السُّلْطَانَ غَضِبَ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ شَقَاوَتِهِ الَّتِي عُرِفَ بِهَا، لَا بِسَبَبِ اعْتِدَائِهِ وَتَشْوِيهِهِ لِلْمُصْحَفِ ; لِأَنَّ السُّلْطَانَ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، وَلِأَجْلِ هَذَا عَدَّ الْمُصَنِّفُ الْإِيقَاعَ بِهِ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ. وَإِنَّمَا عَجِبْنَا نَحْنُ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ مِنْ تَسَاهُلِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَهْدِ الْحُكُومَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ كَيْفَ وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ ; رَجُلٌ مِنْ أَشْقِيَاءِ الْيَهُودِ أَهْلِ النُّفُوذِ، يَجِيءُ بَغْدَادَ، فَيَنْزِلُ فِي مَدْرَسَةٍ مِنْ أَشْهَرَ الْمَدَارِسِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَيَكُونُ لَهُ مِنْ حُرِّيَّةِ التَّصَرُّفِ فِيهَا وَالْعَبَثِ بِكُتُبِهَا مَا يُمَكِّنُهُ مَنْ تَشْوِيهِ مُصْحَفٍ أَثَرِيٍّ، كَانَ أَحْسَنَ الْمَصَاحِفِ الَّتِي حَفِظَهَا التَّارِيخُ فِي بَغْدَادَ؟ ! فَلْيَعْتَبِرْ بِهَذَا التَّسَامُحِ الْمُعْتَبِرُونَ.

ثُمَّ رَدَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) أَيْ بَلْ هُوَ صَاحِبُ الْجُودِ الْكَامِلِ، وَالْعَطَاءِ الشَّامِلِ، عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِبَسْطِ الْيَدَيْنِ ; لِأَنَّ الْجَوَّادَ السَّخِيَّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبَالِغَ فِي الْعَطَاءِ جَهْدَ اسْتِطَاعَتِهِ يُعْطِي بِكِلْتَا يَدَيْهِ، وَصَفُوهُ بِغَايَةِ الْبُخْلِ وَالْإِمْسَاكِ، فَأَبْطَلَ قَوْلَهُمْ، وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ غَايَةَ الْجُودِ وَسِعَةَ الْعَطَاءِ. وَلَا غَرْوَ، فَكُلُّ مَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ الْعَالَمُ كُلُّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّعِيمِ هُوَ سِجِلٌّ مِنْ ذَلِكَ الْجُودِ وَالْكَرَمِ. وَالنُّكْتَةُ فِي قَوْلِهِ: " كَيْفَ يَشَاءُ " بَيَانُ أَنَّ تَقْتِيرَ الرَّزَّاقِ عَلَى بَعْضِ الْعِبَادِ، الْجَارِي عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ وَسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ لَا يُنَافِي سِعَةَ الْجُودِ وَسَرَيَانِهِ فِي كُلِّ الْوُجُودِ، فَإِنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ الْإِرَادَةَ وَالْمَشِيئَةَ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ، بِحَسَبَ السُّنَنِ الَّتِي أَقَامَ بِهَا نِظَامَ الْخَلْقِ.

وَالْعَجَبُ مِنَ الْإِمَامِ الْجَلِيلِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ: كَيْفَ صَوَّرَ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الْيَدِ هُنَا أَحْسَنَ تَصْوِيرٍ، ثُمَّ خَفِيَتْ عَنْهُ نُكْتَةُ تَثْنِيَتِهِ ; فَجَعَلَهَا حُجَّةَ الْمُفَوِّضَةِ عَلَى أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَنَحْنُ مَعَهُ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، نَنْعَى عَلَى الْمُؤَوِّلِينَ النُّفَاةَ، وَلَا يَمْنَعُنَا ذَلِكَ أَنْ نَفْهَمَ نُكْتَةَ تَثْنِيَةَ الْيَدِ مِنِ اسْتِعْمَالِ لَفْظِهَا الْمُفْرَدِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ تَفْسِيرِ غَلِّ

الْيَدِ بِالْإِمْسَاكِ وَحَبْسِ الْعَطَاءِ عَنِ الِاتِّسَاعِ مَا نَصُّهُ: وَإِنَّمَا وَصَفَ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - الْيَدَ بِذَلِكَ، وَالْمَعْنَى الْعَطَاءُ ; لِأَنَّ عَطَاءَ النَّاسِ وَبَذْلَ مَعْرُوفِهِمُ الْغَالِبُ بِأَيْدِيهِمْ، فَجَرَى اسْتِعْمَالُ النَّاسِ فِي وَصْفِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا إِذَا وَصَفُوهُ بِجُودٍ وَكَرَمٍ، أَوْ بِبُخْلٍ وَشُحٍّ وَضِيقٍ، بِإِضَافَةِ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى يَدَيْهِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى فِي مَدْحِ رَجُلٍ:

يَدَاكَ يَدَا جُودٍ فَكَفٌّ مُقَيَّدَةٌ ... وَكَفٌّ إِذَا مَا ضُنَّ بِالزَّادِ تُنْفِقُ

فَأَضَافَ مَا كَانَ صِفَةَ صَاحِبِ الْيَدِ مِنْ إِنْفَاقٍ وَإِفَادَةٍ إِلَى الْيَدِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي أَشْعَارِهَا وَأَمْثَالِهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، فَخَاطَبَهُمُ اللهُ بِمَا يَتَعَارَفُونَهُ أَوْ يَتَحَاوَرُونَهُ بَيْنَهُمْ فِي كَلَامِهِمْ، انْتَهَى.

ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْجَدَلِ أَنَّ يَدَ اللهِ نِعْمَتُهُ أَوْ قُدْرَتُهُ أَوْ مُلْكُهُ، وَقَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ يَدَ اللهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، غَيْرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِجَارِحَةٍ كَجَوَارِحِ

<<  <  ج: ص:  >  >>