بَنِي آدَمَ، رَدَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَرَجَّحَ الثَّانِي بِتَثْنِيَةِ الْيَدِ وَعَدَمِ إِفْرَادِهَا، وَإِبْطَالِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ التَّثْنِيَةَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ.
نَعَمْ، إِنَّ التَّثْنِيَةَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ (وَالْيَدَ وَالْيَدَيْنِ) لَمْ يَقْصِدْ بِلَفْظِهِمَا النِّعْمَةَ وَلَا الْقُوَّةَ وَلَا الْمِلْكَ؛ وَإِنَّمَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ الْكِنَايَةِ، وَنُكْتَةُ التَّثْنِيَةِ إِفَادَةُ سِعَةِ الْعَطَاءِ وَمُنْتَهَى الْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَأْوِيلٌ وَلَا نَفْيٌ لِمَا أَثْبَتَهُ الْبَارِئُ لِنَفْسِهِ مِنْ صِفَةِ الْيَدِ وَالْيَدَيْنِ وَالْأَيْدِي فِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَمَا سَبَبُ ذُهُولِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ نُكْتَةِ التَّثْنِيَةِ إِلَّا تَوَجُّهُهُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْجَدَلِ فِي الْمَذْهَبِ الَّذِي كَانُوا قَدِ انْتَحَلُوهُ فِي تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ، وَمَتَى وَجَّهَ الْإِنْسَانُ هَمَّهُ إِلَى شَيْءٍ يَكُونُ لَهُ مِنْهُ حِجَابٌ مَا عَنْ غَيْرِهِ، وَتَقْرِيرُ الْحَقِيقَةِ لِذَاتِهَا غَيْرُ الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُعَدُّونَ مِنْ خُصُومِهَا (مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (٣٣: ٤) وَلِهَذَا غَلَطَ كَثِيرٌ مِنْ أَنْصَارِ مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي مَسَائِلَ خَالَفُوا فِيهَا الْمَذْهَبَ مِنْ حَيْثُ يُرِيدُونَ تَأْيِيدَهُ، وَهَذِهِ آفَةٌ مِنْ آفَاتِ عَصَبِيَّةِ الْمَذَاهِبِ، لَا تَنْفَكُّ عَنْهَا.
(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) الْخُطَّابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ إِنَّ هَذَا الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ مِنْ خَفِيِّ أُمُورِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الْمُعَاصِرِينَ لَكَ وَمِنْ أَحْوَالِ سَلَفِهِمْ وَشُئُونِ كُتُبِهِمْ وَحَقَائِقِ تَارِيخِهِمْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْحُجَجِ وَالْآيَاتِ
عَلَى نُبُوَّتِكَ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْذِبَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِكَ ; لِأَنَّكَ لَوْلَا النُّبُوَّةُ وَالْوَحْيُ لَمَا عَلِمْتَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ; لَا مِنْ مَاضِيهِ ; لِأَنَّكَ أُمِّيٌّ لَمْ تَقْرَأِ الْكُتُبَ، وَمَا كُلُّ مَنْ قَرَأَهَا يَعْلَمُ كُلَّ مَا جِئْتَ بِهِ عَنْهُمْ، وَلَا مِنْ حَاضِرِهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ خَفَايَا مَكْرِهِمْ وَأَسْرَارِ كَيْدِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لِتَجَاوُزِهِمُ الْحُدُودَ فِي الْكُفْرِ وَالْحَسَدِ لِلْعَرَبِ، وَالْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ لِأَنْفُسِهِمْ، لَا يَجْذِبُهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَا يُقَرِّبُهُمْ مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَوَاللهِ لَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ طُغْيَانًا فِي بُغْضِكَ وَعَدَاوَتِكَ، وَكُفْرًا بِمَا جِئْتَ بِهِ، قَالَ قَتَادَةُ: حَمَلَهُمْ حَسَدُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَرَبِ عَلَى أَنْ كَفَرُوا بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى أَنْ تَرَكُوا الْقُرْآنَ، وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ وَدِينِهِ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ. فَعُلِمَ مِمَّا شَرَحْنَاهُ أَنَّ زِيَادَةَ طُغْيَانِ الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ وَكُفْرِهِمْ جَاءَ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ وَضِدَّ مَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ ; فَلِهَذَا أَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ الَّذِي تُفِيدُهُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: (وَلِيَزِيدَنَّ) .
(وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (بَيْنَهُمْ) يَرْجِعُ إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَعَزَاهُ غَيْرُهُ إِلَى الْحَسَنِ أَيْضًا، وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الرَّبِيعِ، فَلَا نَعْرِفُ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ غَيْرَهُ، وَفِي تَفَاسِيرِ الْمُتَأَخِّرِينَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ وَحْدَهُمْ. وَيُرَادُ بِالْمُلْقَى حِينَئِذٍ عَدَاوَةُ الْمَذَاهِبِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ ; لِأَنَّ هَذَا لَا يَنْقَطِعُ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ مَعَهُ فَائِدَةٌ لِتَخْصِيصِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute