الْيَهُودِيَّةِ، وَهُمُ الْآنَ مِنْ أَشَدِّ الْأُمَمِ تَعَاطُفًا وَتَعَاضُدًا وَائْتِلَافًا، وَأَمَّا الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّصَارَى فَلَمْ تَنْقَطِعْ، وَهِيَ عَلَى أَشُدِّهَا الْآنَ فِي بِلَادِ رُوسِيَّةَ، وَعَلَى أَقَلِّهَا فِي إِنْكِلْتِرَةَ وَفَرَنْسَةَ وَأَلْمَانِيَّةَ ; لِمَا فِي هَذِهِ الْمَمَالِكِ مِنَ الْقَوَانِينِ الْحُرَّةِ، وَالْحُكُومَاتِ الْمُنْتَظِمَةِ، وَلِمَا لِلْمَالِ وَأَهْلِهِ فِيهَا مِنَ النُّفُوذِ وَالتَّأْثِيرِ فِي السِّيَاسَةِ، وَسَائِرِ شُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، وَالْيَهُودُ أَغْنَى أَهْلِهَا، وَالْمُدِيرُونَ لِأَرْحِيَةِ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ الْمَالِيَّةِ فِيهَا، وَهُمْ، عَلَى مَكَانَتِهِمْ هَذِهِ، مَبْغُوضُونَ مِنْ جَمَاهِيرِ النَّصَارَى، وَكَمْ أُلِّفَتْ كُتُبٌ فِي فَرَنْسَةَ وَغَيْرِهَا فِي التَّحْرِيضِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي أَلْمَانِيٌّ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُسْتَشْرِقِينَ أَنَّهُمْ لَا يَعُدُّونَ الْيَهُودِيَّ فِي بِلَادِهِ مِنْهُمْ، بَلْ يَقُولُونَ: هَذَا يَهُودِيٌّ، وَهَذَا أَلْمَانِيٌّ. وَأَمَّا الْعَدَاوَةُ بَيْنَ
النَّصَارَى فَهِيَ أَشَدُّ، وَإِنَّ دُوَلَهُمُ الْكُبْرَى تَسْتَعِدُّ دَائِمًا لِحَرْبٍ يَسْحَقُ بِهَا بَعْضُهَا بَعْضًا.
(كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) الْحَرْبُ ضِدَّ السِّلْمِ، وَلَيْسَ مُرَادِفًا لِلْقِتَالِ، بَلْ أَعَمَّ، كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمُحَارِبَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، فَهُوَ يَصْدُقُ بِالْإِخْلَالِ بِالْأَمْنِ، وَالنَّهْبِ وَالسَّلْبِ، وَلَوْ بِغَيْرِ قَتْلٍ، وَيَصْدُقُ بِتَهْيِيجِ الْفِتَنِ، وَالْإِغْرَاءِ بِالْقِتَالِ. خَصَّ مُجَاهِدٌ الْحَرْبَ هُنَا بِحَرْبِهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَسَنُ: بِاجْتِمَاعِ السِّفْلَةِ مِنَ الْأَقْوَامِ عَلَى قَتْلِ الْعَرَبِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ: كُلَّمَا أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَرَّقَهُ اللهُ وَأَطْفَأَ حَدَّهُمْ وَنَارَهُمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَفَسَّرَهُ الرَّبِيعُ بِمَا كَانَ مِنْ مَفَاسِدِهِمُ الْمَاضِيَةِ الَّتِي أَغْرَتْ بِهَا الْبَابِلِيِّينَ وَالرُّومَ قَبْلَ النَّصْرَانِيَّةِ وَبَعْدَهَا، ثُمَّ الْمُسْلِمِينَ، كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ إِيقَادَهُمْ لِنَارِ الْحَرْبِ هُوَ تَلَبُّسُهُمْ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يُرِيدُوهَا بِهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَخْذُلُهُمْ فِي كُلِّ مَا يَكِيدُونَ بِهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، فَإِمَّا أَنْ يَخِيبُوا، وَلَا يَتِمَّ لَهُمْ مَا يَسْعَوْنَ إِلَيْهِ مِنَ الْإِغْرَاءِ وَالتَّحْرِيضِ، وَإِمَّا أَنْ يَنْصُرَ اللهُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَلِكَ كَانَ، وَصَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ.
وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ذَلِكَ عَامًّا، عَمَلًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، دُونَ السِّيَاقِ وَالْقَرِينَةِ وَالْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: كُلَّمَا أَرَادُوا مُحَارَبَةَ أَحَدٍ غُلِبُوا وَقُهِرُوا، وَلَمْ يَقُمْ لَهُمْ نَصْرٌ مِنَ اللهِ عَلَى أَحَدٍ قَطُّ - ثُمَّ قَالَ - وَقِيلَ كُلَّمَا حَارَبُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُصِرَ عَلَيْهِمْ، انْتَهَى. وَمَا اخْتَرْنَاهُ أَظْهَرُ.
وَمِنَ الْمَفْصَّلِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُغْرُونَ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ سَعَى لِتَحْرِيضِ الرُّومِ عَلَى غَزْوِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيُئْوِي أَعْدَاءَهُمْ وَيُسَاعِدُهُمْ ; كَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ.
وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ مُقَاوَمَةِ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ كَانَ سَبَبُهُ الْحَسَدَ وَالْعَصَبِيَّةَ، وَتَوَقَّعَ الْأَحْبَارُ وَالرُّؤَسَاءُ إِزَالَةَ الْإِسْلَامِ لِمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الِامْتِيَازِ بَيْنَ الْعَرَبِ فِي الْحِجَازِ، مِنْ مَكَانَةِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ ; إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحْتَرِمُونَهُمْ لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَإِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute