للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) تَقَدَّمَ أَنَّ نِدَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَقَبِ الرَّسُولِ لَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهَذَا ثَانِيهُمَا، وَكِلَاهُمَا جَاءَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ فِي دَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمُحَاجَّتِهِمْ فِي الدِّينِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ الْحُسْنِ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَابْنِ جَرِيرٍ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ وَبَدْءِ الْعَهْدِ بِالتَّبْلِيغِ الْعَامِّ، وَكَأَنَّهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُضِعَتْ فِي آخِرِ سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ لِلتَّذْكِيرِ بِأَوَّلِ الْعَهْدِ بِالدَّعْوَةِ فِي آخِرِ الْعَهْدِ بِهَا، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.

وَرَوَتِ الشِّيعَةُ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ النَّصُّ عَلَى خِلَافَةِ عَلِيٍّ بَعْدَهُ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخَافُ أَنْ يَشُقَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَشَجَّعَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللهَ أَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِوِلَايَةِ عَلِيٍّ فَتَخَوَّفَ أَنْ يَقُولُوا: حَابَى ابْنَ عَمِّهِ، وَأَنْ يَطْعَنُوا فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ. فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ فِي غَدِيرِ خُمٍّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ وَقَالَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فِعْلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ "، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ وَأَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ مُخْتَلِفَةٌ، وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُوَالَاةِ عَلِيٍّ شَاعَ وَطَارَ فِي الْبِلَادِ، فَبَلَغَ الْحَارِثَ بْنَ النُّعْمَانِ الْفِهْرِيَّ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَتِهِ، وَكَانَ بِالْأَبْطَحِ، فَنَزَلَ وَعَقَلَ نَاقَتَهُ وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَلَأٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَرْتَنَا عَنِ اللهِ أَنْ نَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، فَقَبِلْنَا مِنْكَ، ثُمَّ ذَكَرَ سَائِرَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَقَالَ: ثُمَّ لَمْ تَرْضَ بِهَذَا حَتَّى مَدَدْتَ بِضَبْعَيِ ابْنِ عَمِّكَ وَفَضَّلْتُهُ عَلَيْنَا وَقُلْتَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فِعْلِيٌّ مَوْلَاهُ " فَهَذَا مِنْكَ أَمْ مِنَ اللهِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، هُوَ أَمْرُ اللهِ "، فَوَلَّى الْحَارِثُ يُرِيدُ رَاحِلَتَهُ وَهُوَ يَقُولُ: (اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطَرَ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (٨: ٣٢) فَمَا وَصَلَ إِلَيْهَا حَتَّى رَمَاهُ اللهُ بِحَجَرٍ فَسَقَطَ عَلَى هَامَتِهِ وَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ) (٧٠: ١، ٢) . . . إِلَخْ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مَوْضُوعَةٌ، وَسُورَةُ الْمَعَارِجِ هَذِهِ مَكِّيَّةٌ، وَمَا حَكَاهُ اللهُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ كَفَّارِ قُرَيْشٍ (اللهُمَّ إِنَّ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ) كَانَ تَذْكِيرًا بِقَوْلٍ قَالُوهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَهَذَا التَّذْكِيرُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَقَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ بِبِضْعِ سِنِينَ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ النُّعْمَانِ هَذَا كَانَ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ، وَلَمْ يُعْرَفْ فِي الصَّحَابَةِ، وَالْأَبْطَحُ بِمَكَّةَ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ غَدِيرِ خُمٍّ إِلَى مَكَّةَ، بَلْ نَزَلَ فِيهِ مُنْصَرَفِهِ مِنْ حِجَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى الْمَدِينَةِ.

أَمَّا حَدِيثُ " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِّيٌّ مَوْلَاهُ " فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>