وَالْبَغْضَاءَ، وَمَا دَامَتْ عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ غَالِبَةً عَلَى الْجَمَاهِيرِ فَلَا رَجَاءَ فِي تَحَرِّيهِمُ الْحَقَّ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَلَا فِي تَجَنُّبِهِمْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْخِلَافِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالْعَدَاءِ، وَلَوْ زَالَتْ تِلْكَ الْعَصَبِيَّةُ، وَنَبَذَهَا الْجُمْهُورُ لَمَا ضَرَّ الْمُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ ثُبُوتُ هَذَا الْقَوْلِ أَوْ ذَاكَ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ فِيهِ حِينَئِذٍ إِلَّا بِمِرْآةِ الْإِنْصَافِ وَالِاعْتِبَارِ، فَيَحْمَدُونَ الْمُحِقِّينَ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُخْطِئِينَ (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينِ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (٥٩: ١٠) .
ثُمَّ إِنَّنَا نَجْزِمُ بِأَنَّ مَسْأَلَةَ الْإِمَامَةِ لَوْ كَانَ فِيهَا نَصٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الْحَدِيثِ لَتَوَاتَرَ وَاسْتَفَاضَ، وَلَمْ يَقَعْ فِيهَا مَا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ، وَلَتَصَدَّى عَلِيٌّ لِلْقِيَامِ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ بِالنَّصِّ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَا يَحْسُنُ بَيَانُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَانَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْإِمَامُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَلَا احْتَجَّ بِالْآيَةِ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ آلِ بَيْتِهِ وَأَنْصَارِهِ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَهُ عَلَى غَيْرِهِ، لَا يَوْمَ السَّقِيفَةِ، وَلَا يَوْمَ الشُّورَى بَعْدَ عُمَرَ، وَلَا قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ فِي زَمَنِهِ، وَهُوَ هُوَ الَّذِي كَانَ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَلَمْ يَعْرِفِ التَّقِيَّةَ فِي قَوْلٍ وَلَا عَمَلٍ؛ وَإِنَّمَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ، وَوُضِعَتْ لَهَا الرِّوَايَاتُ، وَاسْتُنْبِطَتِ الدَّلَائِلُ بَعْدَ تَكَوُّنِ الْفِرَقِ، وَعَصَبِيَّةِ الْمَذَاهِبِ. وَالْوَصِيَّةُ بِالْخِلَافَةِ لَا مُنَاسَبَةَ لَهَا فِي سِيَاقِ مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَهِيَ مِمَّا لَا تَرْضَاهُ بَلَاغَةُ الْقُرْآنِ، بَلْ لَوْ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّصَّ عَلَى خَلِيفَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَتَبْلِيغِ ذَلِكَ لِلنَّاسِ، لَقَالَهُ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهِيَ الَّتِي اسْتَشْهَدَ النَّاسَ فِيهَا عَلَى تَبْلِيغِهِ فَشَهِدُوا، وَأَشْهَدَ اللهَ عَلَى ذَلِكَ. دَعْ سِيَاقَ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَإِنَّهَا هِيَ نَفْسَهَا لَا تَقْبَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّبْلِيغِ فِيهَا تَبْلِيغَ النَّاسِ إِمَارَةَ عَلِيٍّ، فَإِنَّ جُمْلَةَ " وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ " الشَّرْطِيَّةَ الَّتِي بَعْدَ جُمْلَةِ " بَلِّغْ " الْأَمْرِيَّةِ، وَجُمْلَةَ الْأَمْرِ بِالْعِصْمَةِ، وَجُمْلَةَ التَّذْيِيلِ التَّعْلِيلِيِّ بِنَفْيِ هِدَايَةِ الْكَافِرِينَ،
لَا يُنَاسِبُ شَيْءٌ مِنْهَا تَبْلِيغَ النَّاسِ مَسْأَلَةَ الْإِمَارَةِ، فَتَأَمَّلِ الْآيَةَ فِي ذَاتِهَا بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ، لَا بِعَيْنِ التَّقْلِيدِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَهْتَدِي بِهِ، نُوَالِي عَلِيًّا الْمُرْتَضَى، وَنُوَالِي مَنْ وَالَاهُمْ، وَنُعَادِي مَنْ عَادَاهُمْ، وَنَعُدُّ ذَلِكَ كَمُوَالَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ، وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ عِتْرَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْكِتَابَ وَالْعِتْرَةَ خَلِيفَتَا الرَّسُولِ، فَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ قِصَّةِ الْغَدِيرِ، فَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَمْرٍ قَبِلْنَاهُ وَاتَّبَعْنَاهُ، وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي أَمْرٍ رَدَدْنَاهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ.
وَأَمَّا الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْأَمْرُ بِالتَّبْلِيغِ الْعَامِّ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، كَمَا رَوَاهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَلَوْلَاهُ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ تَبْلِيغَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute