دَاوُدَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعَلَّمَ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَالنَّسَائِيُّ بِلَفْظِهِ فِي آخِرِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ مُلَخَّصُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَاهُ وَهُوَ يَحْفِرُ فِي الْخَنْدَقِ فِي وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ بِلَادَ كِسْرَى فَسُئِلَ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعَالَى بِأَنْ يَفْتَحَهَا لِأُمَّتِهِ فَدَعَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ اللهَ أَرَاهُ مُلْكَ قَيْصَرَ وَدِيَارَ الشَّامِ فَسُئِلَ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَفْتَحَهَا لَهُمْ فَدَعَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ اللهَ أَرَاهُ الْحَبَشَةَ، وَقَالَ هَذَا الْحَدِيثَ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلُوهُ الدُّعَاءَ بِفَتْحِهَا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ رَأَوْا فِي عَصْرِهِ مِنْ مَوَدَّةِ النَّصَارَى وَقُرْبِهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ بِقَدْرِ مَا رَأَوْا مِنْ عَدَاوَةِ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ بُعْدُ النَّصَارَى عَنْهُمْ، وَقُرْبُ الْيَهُودِ مِنْهُمْ فِي الْمَدِينَةِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مَعًا، وَمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ أَبَى تَرْكَ دِينِهِ إِلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ بَعِيدٍ، لَا يَعْنِي بِعَدَاوَةِ أَهْلِهَا وَمُقَاوَمَتِهِمْ كَمَا يُعْنَى الْقَرِيبُ الَّذِي تُوَجَّهُ إِلَيْهِ الدَّعْوَةُ مُوَاجَهَةً وَمُشَافَهَةً، وَلِذَلِكَ كَانَ الْيَهُودُ فِي الشَّامِ وَالْأَنْدَلُسِ يَعْطِفُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْفَتْحِ وَيَرْغَبُونَ فِي نَصْرِهِمْ عَلَى نَصَارَى الرُّومِ وَالْقُوطِ، ثُمَّ صَارَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى مِنَ الْعَدَاوَةِ عَلَى الْمُلْكِ وَالْحُرُوبِ لِأَجْلِهِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا كَانَ مِنْ عَدَاوَةِ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ; لِسَلَفِهِمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.
وَالْقَاعِدَةُ لِهَذَا الرَّأْيِ أَنَّ الْعَدَاوَةَ وَالْمَوَدَّةَ كَانَتْ وَلَمْ تَزَلْ أَثَرَ التَّنَازُعِ عَلَى الْمَنَافِعِ وَالسِّيَادَةِ بِاسْمِ الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا، وَلَا دَخْلَ لِطَبِيعَةِ الدِّينِ فِيهَا، وَقَدْ يُؤَيَّدُ هَذَا بِمَا يُثِيرُهُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَمَا بَيْنَ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَيْنِ الْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَلَكِنْ قَدْ يُوجَدُ مِثْلُهُ بَيْنَ مُسْلِمِي الْهِنْدِ وَمُشْرِكِيهَا; لِتَعَارُضِ مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ فِيهَا، فَعِلَّةُ الْعَدَاوَةِ وَالْمَوَدَّةِ خَارِجِيَّةٌ لَا دِينِيَّةٌ وَلَا جِنْسِيَّةٌ.
هَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي جُمْلَتِهِ لَا تَفْصِيلِهِ، وَيَنْطَبِقُ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ وَالْمُتَّفِقِينَ فِيهِ، فَقَدْ حَارَبَ نَصَارَى الْبَلْقَانِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا حَارَبُوا الْعُثْمَانِيِّينَ، بَلْ أَهْلُ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ مِنَ النَّصَارَى يُحَارِبُ الْآنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا; كَالْإِنْجِلِيزِ وَالْأَلْمَانِ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ هُنَا مَعْنًى أَعْلَى مِنْهُمْ وَأَعَمَّ لَا خَاصًّا بِالتَّنَازُعِ.
وَهُوَ أَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ لِعَدَاوَةِ الْمُعَادِينَ وَمَوَدَّةِ الْمُوَادِّينَ هِيَ الْحَالَةُ الرُّوحِيَّةُ الَّتِي هِيَ أَثَرُ تَقَالِيدِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ، وَتَرْبِيَتِهِمُ الْأَدَبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَقَدْ نَبَّهَ الْقُرْآنُ إِلَى ذَلِكَ فِي بَيَانِ سَبَبِ مَوَدَّةِ النَّصَارَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَرْكِ سَبَبِ شِدَّةِ عَدَاوَةِ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ حَالَتَهُمُ الرُّوحِيَّةَ مُبَيَّنَةٌ فِي الْقُرْآنِ أَتَمَّ الْبَيَانِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَمِنْ أَوْسَعِهَا بَيَانًا لِأَحْوَالِ الْيَهُودِ هَذِهِ السُّورَةُ وَمَا قَبْلَهَا مِنَ السُّوَرِ الطُّوَالِ الْمَدَنِيَّةِ، وَأَوْسَعِهَا بَيَانًا لِأَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ سُورَةُ الْأَنْعَامِ الَّتِي تَلِيهَا، وَهِيَ السُّورَةُ الْمَكِّيَّةُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute