كَانَ الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ مُشْتَرِكِينَ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ وَالْأَخْلَاقِ الَّتِي اقْتَضَتْ شِدَّةَ الْعَدَاوَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ; فَمِنْهَا الْكِبْرُ، وَالْعُتُوُّ، وَالْبَغْيُ، وَحُبُّ الْعُلُوِّ، وَمِنْهَا الْعَصَبِيَّةُ الْجِنْسِيَّةُ، وَالْحَمِيَّةُ الْقَوْمِيَّةُ، وَمِنْهَا غَلَبَةُ الْحَيَاةِ الْمَادِّيَّةِ، وَمِنْهَا الْأَثَرَةُ، وَالْقَسْوَةُ، وَضَعْفُ عَاطِفَةِ الْحَنَانِ وَالرَّحْمَةِ، وَكَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ عَلَى جَاهِلِيَّتِهِمْ أَرَقَّ مِنَ الْيَهُودِ قُلُوبًا، وَأَكْثَرَ سَخَاءً وَإِيثَارًا، وَأَشَدَّ حُرِّيَّةً فِي الْفِكْرِ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَمَا قَدَّمَ اللهُ ذِكْرَ الْيَهُودِ فِي الْآيَةِ إِلَّا لِإِفَادَةِ أَصَالَتِهِمْ وَتَمَكُّنِهِمْ فِيمَا وُصِفُوا بِهِ، وَتَبْرِيزِهِمْ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِيهِ، وَنَاهِيكَ بِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنْ قَتْلِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِيذَاءِ بَعْضٍ، وَاسْتِحْلَالِ أَكْلِ أَمْوَالِ غَيْرِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ ضَلْعِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ وَالشَّامِ وَالْأَنْدَلُسِ فَإِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ تَفَيُّؤِ ظِلِّ عَدْلِهِمْ، وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنَ اضْطِهَادِ نَصَارَى تِلْكَ الْبِلَادِ لَهُمْ، فَهُمْ لَمْ يَعُدُّوا فِي ذَلِكَ فِي عَادَتِهِمْ، وَلَمْ يَتْرُكُوا مَا عُرِفَ مِنْ
شِنْشِتَهِمْ، وَهِيَ أَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا إِلَّا لِمَصْلَحَتِهِمْ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مَا تَرَكَهُ اللهُ هُنَا مِنْ بَيَانِ سَبَبِ شِدَّةِ عَدَاوَةِ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ مِنْ سَبَبِ قُرْبَ مَوَدَّةِ النَّصَارَى بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ كَوْنِ النَّصَارَى أَقْرَبَ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا بِسَبَبِ أَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ يَتَوَلَّوْنَ تَعْلِيمَهُمْ وَتَرْبِيَتَهُمُ الدِّينِيَّةَ، وَرُهْبَانًا يُمَثِّلُونَ فِيهِمُ الزُّهْدَ، وَتَرْكَ نَعِيمِ الدُّنْيَا، وَالْخَوْفَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالِانْقِطَاعَ لِعِبَادَتِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنِ الْإِذْعَانِ لِلْحَقِّ إِذَا ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، لِأَنَّهُ أَشْهَرُ آدَابِ دِينِهِمُ التَّوَاضُعُ وَالتَّذَلُّلُ، وَقَبُولُ كُلِّ سُلْطَةٍ وَالْخُضُوعِ لِكُلِّ حَاكِمٍ، بَلْ مِنَ الْمَشْهُورِ فِيهَا: الْأَمْرُ بِمَحَبَّةِ الْأَعْدَاءِ، وَإِدَارَةُ الْخَدِّ الْأَيْسَرِ لِمَنْ ضَرَبَ الْخَدَّ الْأَيْمَنَ، فَتَدَاوُلُ هَذِهِ الْوَصَايَا وَوُجُودُ أُولَئِكَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ، لَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي نُفُوسِ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ وَسَوَادِهَا، فَيُضْعِفُ صِفَةَ الِاسْتِكْبَارِ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ فِيهَا، وَقَدْ عُهِدَ مِنَ النَّصَارَى قَبُولُ سُلْطَةِ الْمُخَالِفِ لَهُمْ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا وَالرِّضَاءُ بِهَا سِرًّا وَجِهَارًا، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِذَا أَظْهَرُوا الرِّضَا بِذَلِكَ اضْطِرَارًا، وَأَسَرُّوا الْكَيْدَ إِسْرَارًا، وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا.
فَتِلْكَ كَانَتْ صِفَاتِ الْفَرِيقَيْنِ الْغَالِبَةَ لَا أَخْلَاقَ أَفْرَادِ الْأُمَّتَيْنِ كَافَّةً، فَفِي كُلِّ قَوْمٍ خَبِيثُونَ وَطَيِّبُونَ (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (٧: ١٥٩) وَلَكِنَّ شَرِيعَةَ الْيَهُودِ نَفْسَهَا تُرَبِّي فِي نُفُوسِهِمُ الْأَثَرَةَ الْجِنْسِيَّةَ، لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ، وَكُلُّ أَحْكَامِهَا وَنُصُوصِهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ:
وَحِكْمَةُ ذَلِكَ: الْمُرَادُ مِنْهَا تَرْبِيَةُ أَمَةٍ مُوَحِّدَةٍ بَيْنَ أُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ الْكَثِيرَةِ بَعْدَ إِنْقَاذِهَا مِنَ اسْتِعْبَادِ أَشَدِّ الْوَثَنِيِّينَ بَطْشًا، وَأَضَرِّهُمْ بِالِاسْتِبْدَادِ وَهِيَ أُمَّةُ الْفَرَاعِنَةِ وَلَوْ أَذِنَ اللهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ إِنْجَائِهِمْ مِنْ مِصْرَ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَنْ يُخَالِطُوا الْأُمَمَ الَّتِي كَانَتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute