عَنِ السُّجُودِ تَمْثِيلٌ لِعَجْزِ الْإِنْسَانِ عَنْ إِخْضَاعِ رُوحِ الشَّرِّ وَإِبْطَالِ دَاعِيَةِ خَوَاطِرِ السُّوءِ الَّتِي هِيَ مَثَارُ التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ، وَالتَّعَدِّي وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَاءَ عَلَى الْإِنْسَانِ زَمَنٌ يَكُونُ فِيهِ
أَفْرَادُهُ كَالْمَلَائِكَةِ بَلْ أَعْظَمَ، أَوْ يَخْرُجُونَ عَنْ كَوْنِهِمْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ.
هَذَا مُلَخَّصٌ مَا تَقَدَّمَ فِي سَابِقِ آيَاتِ الْقِصَّةِ.
وَأَمَّا التَّمْثِيلُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْهَا فَيَصِحُّ عَلَيْهِ أَنْ يُرَادَ بِالْجَنَّةِ الرَّاحَةُ وَالنَّعِيمُ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَجِدَ فِي الْجَنَّةِ - الَّتِي هِيَ الْحَدِيقَةُ ذَاتُ الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ - مَا يَلَذُّ لَهُ مِنْ مَرْئِيٍّ وَمَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَمَشْمُومٍ وَمَسْمُوعٍ، فِي ظِلٍّ ظَلِيلٍ، وَهَوَاءٍ عَلِيلٍ، وَمَاءٍ سَلْسَبِيلٍ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ طَهَ: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) (٢٠: ١١٨ - ١١٩) وَيَصِحُّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ السَّعَادَةِ بِالْكَوْنِ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِآدَمَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ كَمَا يُطْلَقُ اسْمُ أَبِي الْقَبِيلَةِ الْأَكْبَرِ عَلَى الْقَبِيلَةِ، فَيُقَالُ: كَلْبٌ فَعَلَتْ كَذَا وَيُرَادُ قَبِيلَةُ كَلْبٍ، وَكَانَ مِنْ قُرَيْشٍ كَذَا. يَعْنِي الْقَبِيلَةَ الَّتِي أَبُوهَا قُرَيْشٌ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا.
وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالشَّجَرَةِ مَعْنَى الشَّرِّ وَالْمُخَالَفَةِ كَمَا عَبَّرَ اللهُ - تَعَالَى - فِي مَقَامِ التَّمْثِيلِ عَنِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ، وَفُسِّرَتْ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَعَنِ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ بِالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ، وَفُسِّرَتْ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَفِي الْحَدِيثِ تَشْبِيهُ الْمُؤْمِنِ بِشَجَرَةِ النَّخْلِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ وَبِالْهُبُوطِ مِنْهَا أَمْرَ التَّكْوِينِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَمْرَ الْإِلَهِيَّ قِسْمَانِ: أَمْرُ تَكْوِينٍ وَأَمْرُ تَكْلِيفٍ.
وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَوَّنَ النَّوْعَ الْبَشَرِيَّ عَلَى مَا نُشَاهِدُ فِي الْأَطْوَارِ التَّدْرِيجِيَّةِ الَّتِي قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) (٧١: ١٤) فَأَوَّلُهَا طَوْرُ الطُّفُولِيَّةِ وَهِيَ لَا هَمَّ فِيهَا وَلَا كَدَرٌ، وَإِنَّمَا هِيَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ، كَأَنَّ الطِّفْلَ دَائِمًا فِي جَنَّةٍ مُلْتَفَّةِ الْأَشْجَارِ، يَانِعَةِ الثِّمَارِ جَارِيَةِ الْأَنْهَارِ، مُتَنَاغِيَةِ الْأَطْيَارِ، وَهَذَا مَعْنَى (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وَذِكْرُ الزَّوْجَةِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِآدَمَ النَّوْعُ الْآدَمِيُّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الشُّمُولِ وَعَلَى أَنَّ اسْتِعْدَادَ الْمَرْأَةِ كَاسْتِعْدَادِ الرَّجُلِ فِي جَمِيعِ الشُّئُونِ الْبَشَرِيَّةِ، فَأَمْرُ آدَمَ وَحَوَّاءَ بِالسُّكْنَى أَمْرُ تَكْوِينٍ، أَيْ أَنَّهُ - تَعَالَى - خَلَقَ الْبَشَرَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا هَكَذَا.
وَأَمْرُهُمَا
بِالْأَكْلِ حَيْثُ شَاءَا عِبَارَةٌ عَنْ إِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ وَإِلْهَامِ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّجَرَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إِلْهَامِ مَعْرِفَةِ الشَّرِّ، وَأَنَّ الْفِطْرَةَ تَهْدِي إِلَى قُبْحِهِ وَوُجُوبِ اجْتِنَابِهِ، وَهَذَانَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute