وَالتَّوْبَةَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، كَسَائِرِ مَا وَرَدَ فِي الْقِصَّةِ مِمَّا لَا يَرْكَنُ الْعَقْلُ إِلَى ظَاهِرِهِ، وَلَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ تِلْكَ مُخَالَفَةٌ صَدَرَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ عَزْمُ النُّبُوَّةِ كَمَا قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (٢٠: ١١٥) وَالِاتِّفَاقُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْعِصْمَةِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْأَوَامِرِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ الَّذِي وَقَعَ مِنْ آدَمَ نِسْيَانًا، فَسُمِّيَ تَفْخِيمًا لِأَمْرِهِ عِصْيَانًا، وَالنِّسْيَانُ وَالسَّهْوُ مِمَّا لَا يُنَافِي الْعِصْمَةَ، فَإِنْ جَعْلَنَا الْكَلَامَ كُلَّهُ تَمْثِيلًا فَحَدِيثُ الْإِخْلَالِ بِالْعِصْمَةِ مِمَّا لَا يَمُرُّ بِذِهْنِ الْعَاقِلِ.
وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْآيَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَلَفِ فِي التَّمْثِيلِ فَيُقَالُ فِيهِ: إِنَّ الْقُرْآنَ كَثِيرًا مَا يُصَوِّرُ الْمَعَانِيَ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهَا بِصِيغَةِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، أَوْ بِأُسْلُوبِ الْحِكَايَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْبَيَانِ وَالتَّأْثِيرِ، فَهُوَ يَدْعُو بِهَا الْأَذْهَانَ إِلَى مَا وَرَاءَهَا مِنَ الْمَعَانِي،
كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) (٥٠: ٣٠) فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَسْتَفْهِمُ مِنْهَا وَهِيَ تُجَاوِبُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ لِسَعَتِهَا وَكَوْنِهَا لَا تَضِيقُ بِالْمُجْرِمِينَ مَهْمَا كَثُرُوا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بَعْدَ ذِكْرِ الِاسْتِوَاءِ إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (٤١: ١١) وَالْمَعْنَى فِي التَّمْثِيلِ الظَّاهِرِ.
(أَقُولُ) : وَهَذَا الْأَمْرُ يُسَمَّى أَمْرَ التَّكْوِينِ، وَيُقَابِلُهُ أَمْرُ التَّشْرِيعِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ أَمْرَ التَّكْوِينِ لِلتَّعْبِيرِ عَنْهُ فِي التَّنْزِيلِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣٦: ٨٢) فَهُوَ تَصْوِيرٌ لِتَعَلُّقِ إِرَادَةِ الرُّبُوبِيَّةِ بِالْإِيجَادِ، وَلَا أَذْكُرُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلْأَثَرِ تَصْرِيحًا بِأَنَّ الْأَوَامِرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ مِنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ إِلَّا لِلْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ فَإِنَّهُ ذَهَبَ فِي تَفْسِيرِ (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ أَمْرٌ قَدَرِيٌّ كَوْنِيٌّ، وَمِثْلُهُ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ قِصَّةِ آدَمَ وَمِنَ الْآيَاتِ الْأُخْرَى مِنْ مُخَاطَبَةِ إِبْلِيسَ لِلرَّبِّ وَجَوَابِهَا فِي شَأْنِ إِغْوَائِهِ لِلْبَشَرِ وَإِنْظَارِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ) : وَتَقْرِيرُ التَّمْثِيلِ فِي الْقِصَّةِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ هَكَذَا: إِنَّ إِخْبَارَ اللهِ الْمَلَائِكَةَ بِجَعْلِ الْإِنْسَانِ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَهْيِئَةِ الْأَرْضِ وَقُوَى هَذَا الْعَالَمِ وَأَرْوَاحِهِ الَّتِي بِهَا قِوَامُهُ وَنِظَامُهُ لِوُجُودِ نَوْعٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا فَيَكُونُ بِهِ كَمَالُ الْوُجُودِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، وَسُؤَالِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ جَعْلِ خَلِيفَةٍ يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِاخْتِيَارِهِ وَيُعْطِي اسْتِعْدَادًا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لَا حَدَّ لَهُمَا، هُوَ تَصْوِيرٌ لِمَا فِي اسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ لِذَلِكَ وَتَمْهِيدٌ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يُنَافِي خِلَافَتَهُ فِي الْأَرْضِ، وَتَعْلِيمُ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا بَيَانٌ لِاسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ لِعِلْمِ كُلِّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَانْتِفَاعِهِ بِهِ فِي اسْتِعْمَارِهَا، وَعَرْضُ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَسُؤَالُهُمْ عَنْهَا وَتَنَصُّلُهُمْ فِي الْجَوَابِ تَصْوِيرٌ لِكَوْنِ الشُّعُورِ الَّذِي يُصَاحِبُ كُلَّ رُوحٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْمُدَبِّرَةِ لِلْعَوَالِمِ مَحْدُودًا لَا يَتَعَدَّى وَظِيفَتَهُ، وَسُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْخِيرِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ وَالْقُوَى لَهُ يَنْتَفِعُ بِهَا فِي تَرْقِيَةِ الْكَوْنِ بِمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي ذَلِكَ، وَإِبَاءُ إِبْلِيسَ وَاسْتِكْبَارُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute