أَيْ مِنْ ثَمَرِ ذَلِكَ أَوْ مَا ذُكِرَ، وَاسْتَشْهَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِهَذَا الْأَخِيرِ بِقَوْلِ رُؤْبَةَ:
فِيها خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ.
وَذُكِرَ أَنَّ رُؤْبَةَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَرَدْتُ كَأَنَّ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرِّجْسِ أَنَّهُ قَذَرٌ مَعْنَوِيٌّ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ ضَارًّا وَمُحْتَقَرًا تَعَافُهُ الْأَنْفُسُ، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الرِّجْسَ
فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا بِالْمَأْثَمِ وَهُوَ مَا كَانَ ضَارًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا ضَرَرَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الرِّجْسُ الشَّيْءُ الْقَذِرُ، يُقَالُ: رَجُلٌ رَجِسٌ، وَرِجَالٌ أَرْجَاسٌ، قَالَ تَعَالَى: (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) وَالرِّجْسُ يَكُونُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا مِنْ حَيْثُ الطَّبْعِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَإِمَّا مِنْ كُلِّ ذَلِكَ كَالْمَيْتَةِ، فَإِنَّ الْمَيْتَةَ تَعَافُ طَبْعًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا، وَالرِّجْسُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ رِجْسٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: (وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (٢: ٢١٩) لِأَنَّ كُلَّ مَا يُوَفَّى إِثْمُهُ عَلَى نَفْعِهِ فَالْعَقْلُ يَقْتَضِي تَجَنُّبَهُ، وَجَعَلَ الْكَافِرِينَ رِجْسًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشِّرْكَ بِالْعَقْلِ أَقْبَحُ الْأَشْيَاءِ، قَالَ تَعَالَى: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) (٩: ١٢٥) إِلَخْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) نَصٌّ فِي كَوْنِ الرِّجْسِ مَعْنَوِيًّا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) (٢٢: ٣٠) وَكَانَتِ الْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ مِنْ لَوَازِمِ الْأَوْثَانِ وَأَمَّا رِجْسُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فَبَيَانُهُ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْخَمْرِ نَجِسَةَ الْعَيْنِ فَتَكَلَّفُوا كُلَّ التَّكَلُّفِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ (رِجْسٌ) خَبَرٌ عَنِ الْخَمْرِ وَخَبَرُ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا مَحْذُوفٌ، وَلَوْ سَلِمَ لَهُمْ هَذَا لَمَا كَانَ مُفِيدًا لِنَجَاسَةِ الْخَمْرِ نَجَاسَةً حِسِّيَّةً، فَإِنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ مَا كَانَ شَدِيدَ الْقَذَارَةِ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَالْخَمْرُ لَيْسَتْ قَذِرَةَ الْعَيْنِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ (رِجْسٌ) خَبَرٌ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ كَمَا قُلْنَا تَبَعًا لِلْجُمْهُورِ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنَ الْعِبَارَةِ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ فِي الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ يُوَافِقُ قَوْلَهُ تَعَالَى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) وَأَمَّا إِفْرَادُهُ مَعَ كَوْنِهِ خَبَرًا عَنْ مُتَعَدِّدٍ فَلِأَنَّهُ مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (٩: ٢٨) أَوْ لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مُضَافًا تَقْدِيرُهُ أَنَّ تَعَاطِيَ مَا ذَكَرَهُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) تَفْسِيرٌ وَإِيضَاحٌ لِكَوْنِ مَا ذَكَرَ رِجْسًا، وَمَعْنَى كَوْنِهَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أَنَّهَا مِنَ الْأَعْمَالِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute