للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الَّتِي زَيَّنَ لِأَعْدَائِهِ

بَنِي آدَمَ ابْتِدَاعَهَا وَإِيجَادَهَا، ثُمَّ هُوَ يُوَسْوِسُ لَهُمْ بِأَنْ يَعْكُفُوا عَلَيْهَا، وَيُزَيِّنُهَا لَهُمْ لِمَا فِيهَا مِنْ شِدَّةِ الضَّرَرِ بِهِمْ.

(فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أَيْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَاجْتَنِبُوا هَذَا الرِّجْسَ كُلَّهُ أَوْ فَاجْتَنِبُوا مَا ذُكِرَ كُلَّهُ، أَيِ ابْعُدُوا عَنْهُ وَكُونُوا فِي جَانِبٍ غَيْرِ الْجَانِبِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، رَجَاءَ أَنْ تُفْلِحُوا وَتَفُوزُوا بِمَا فَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ تَزْكِيَةِ أَنْفُسِكُمْ، وَتَحْلِيَتِهَا، بِذِكْرِ رَبِّكِمْ، وَمُرَاعَاةِ سَلَامَةِ أَبْدَانِكُمْ وَالتَّوَادِّ وَالتَّآخِي فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَتَعَاطِي مَا ذَكَرَ يَصُدُّ عَنْ ذَلِكَ وَيَحُولُ دُونَهُ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:

(إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) بَيَّنَ حَظَّ الشَّيْطَانِ مِنَ النَّاسِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ دُونَ مَا قَرَنَ بِهِمَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ، لِأَنَّ بَيَانَ تَحْرِيمِهِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ (أَيْ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْهَا) تَحْرِيمُ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ وَكَوْنُ ذَلِكَ فِسْقًا، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ تَرَكُوهُمَا; لِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَالْخِطَابُ هُنَا لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ طَهَّرَهُمُ التَّوْحِيدُ مِنْ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ كُلِّهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ: " أَقُرِنْتِ بِالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ؟ بُعْدًا لَكِ وَسُحْقًا، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ ذِكْرَ الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ وَهُمَا مِنَ الْخُرَافَاتِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَلَزِمَهُمَا مَعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَهُمَا مِنَ الرَّذَائِلِ الْمَالِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ قَدْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ رِجْسِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ شَيْءٌ مِنْهُ بِأَهْلِ الْحَنِيفِيَّةِ.

وَالْعَدَاوَةُ ضَرْبٌ مِنَ التَّجَاوُزِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ مَعْنَى مَادَّةِ (عَدَا يَعْدُو) وَهُوَ تَجَاوُزُ الْحَقِّ إِلَى الْإِيذَاءِ، قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَالْعَادِي الظَّالِمُ، يُقَالُ: لَا أَشْمَتَ اللهُ بِكَ عَادِيكَ، أَيْ عَدُّوَكَ الظَّالِمَ لَكَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُ الْعَرَبِ فُلَانٌ عَدُوُّ فُلَانٍ: مَعْنَاهُ فُلَانٌ يَعْدُو عَلَى فُلَانٍ بِالْمَكْرُوهِ وَيَظْلِمُهُ اهـ. وَقَالُوا أَيْضًا: الْعَدُوُّ ضِدُّ الصَّدِيقِ وَضِدُّ الْوَلِيِّ أَيِ الْمُوَالِي، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَدَاوَةَ سَيِّئَةٌ عَمَلِيَّةٌ، وَالْبَغْضَاءَ انْفِعَالٌ فِي الْقَلْبِ وَأَثَرٌ فِي النَّفْسِ فَهُوَ ضِدُّ الْمَحَبَّةِ، فَالْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ يَجْتَمِعَانِ وَيُوجَدُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ.

أَمَّا كَوْنُ الْخَمْرِ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى الْأَصْدِقَاءِ مِنْهُمْ

فَمَعْرُوفٌ وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ، وَعِلَّتُهُ أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ يَسْكَرُ فَيَفْقِدُ الْعَقْلَ الَّذِي يَعْقِلُ الْإِنْسَانَ أَيْ يَمْنَعُهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ الَّتِي تَسُوءُ النَّاسَ وَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ حُبُّ الْفَخْرِ الْكَاذِبِ، وَيُسْرِعُ إِلَيْهِ الْغَضَبُ بِالْبَاطِلِ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ مُحِبِّي الْخَمْرِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ لِلشُّرْبِ، فَقَلَّمَا تَكُونُ رَذَائِلُهُمْ قَاصِرَةً عَلَيْهِمْ، غَيْرَ مُتَعَدِّيَةٍ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَكَثِيرًا مَا تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ مَنْ يَشْرَبُ

<<  <  ج: ص:  >  >>