للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) فَمَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ الْوَاجِبَ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا يَصِلُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَيُذْبَحُ هُنَاكَ أَيْ فِي جِوَارِهَا حَيْثُ تُؤَدَّى الْمَنَاسِكُ وَيُفَرَّقُ لَحْمُهُ عَلَى مَسَاكِينَ الْحَرَمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ السُّورَةِ أَنَّ الْهَدْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْأَنْعَامِ، فَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ كَوْنِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْجَزَاءِ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي الصِّفَاتِ وَالْهَيْئَاتِ وَكَلِمَةُ (هَدْيًا) حَالٌ مِنْ (جَزَاءٌ) بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: (يَحْكُمُ بِهِ) أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ يَهْدِي هَدْيًا.

(أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِإِضَافَةِ (كَفَّارَةُ) إِلَى (طَعَامٍ) أَيْ كَفَّارَةُ طَعَامٍ لَا كَفَّارَةُ هَدْيٍ وَلَا صِيَامٍ، وَالْبَاقُونَ بِتَنْوِينِ (كَفَّارَةٌ) ، أَيْ فَعَلَى مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ مُتَعَمِّدٌ جَزَاءٌ مِنَ النَّعَمِ مُمَاثِلٌ لَهُ أَوْ كَفَارَّةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ، أَوْ مَا يُعَادِلُ ذَلِكَ الطَّعَامَ مِنَ الصِّيَامِ، وَالْعَدْلُ بِالْفَتْحِ الْمُعَادِلُ لِلشَّيْءِ الْمُسَاوِي لَهُ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ وَالْعَقْلِ كَالْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ، وَبِالْكَسْرِ الْمُعَادِلُ وَالْمُسَاوِي مِمَّا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ كَالْغِرَارَتَيْنِ مِنَ الْأَحْمَالِ عَلَى جَانِبَيِ الْبَعِيرِ يُسَمَّى كُلٌّ مِنْهَا عِدْلًا، هَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ الرَّاغِبُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ بِالْكَسْرِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ عَدْلَ الشَّيْءِ مَا عَادَلَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَالصَّوْمِ

وَالْإِطْعَامِ وَعِدْلَهُ مَا عَدَلَ بِهِ فِي الْمِقْدَارِ، وَمِنْهُ عِدْلَا الْحِمْلِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا عِدْلٌ بِالْآخَرِ حَتَّى اعْتَدَلَا، كَأَنَّ الْمَفْتُوحَ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ، وَالْمَكْسُورِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ كَالذَّبْحِ وَنَحْوِهِ، وَنَحْوِهِمَا الْحَمْلُ وَالْحِمْلُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَرْوِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ.

وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي فِدْيَةِ الْحَلْقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (٢: ١٩٦) فَالنُّسُكُ هُنَاكَ بِمَعْنَى الْهَدْيِ هُنَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ بِحَلْقِ رَأْسِهِ لَمَّا آذَتْهُ الْقَمْلُ، وَأَنْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ أَوْ يَهْدِيَ شَاةً أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ " فَعَلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ صِيَامَ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ يَعْدِلُ إِطْعَامَ مِسْكِينَيْنِ، وَأَنَّ إِطْعَامَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ وَصِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَعْدِلُ ذَبْحَ شَاةٍ فِي النُّسُكِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِجَعْلِ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُعَادَلَةً لِإِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قُلْنَا: إِنَّ الصِّيَامَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَمْ يُجْعَلْ مُسَاوِيًا لِلْإِطْعَامِ بَلْ تَخْفِيفًا عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَطَعِ الْإِطْعَامَ وَإِلَّا لَخُيِّرَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَنَّ صِيَامَ شَهْرَيْنِ أَعْظَمُ مِنْ إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، إِذْ فُرِضَ الْإِطْعَامُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الصِّيَامَ هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ لَا التَّخْيِيرِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ جَعَلَ كَفَّارَةَ الْمُجَامِعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مُوَافِقٌ لِمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>