أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَا يُفْتِيكَ حَتَّى سَأَلَ صَاحِبَهُ، اعْمَدْ إِلَى نَاقَتِكَ فَانْحَرْهَا فَلَعَلَّ ذَلِكَ، يَعْنِي أَنْ يُجْزِيَ عَنْكَ، قَالَ قَبِيصَةُ: وَلَا أَذْكُرُ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (يحكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فَبَلَغَ عُمَرَ مَقَالَتِي فَلَمْ يُفَاجِأْنَا مِنْهُ إِلَّا وَمَعَهُ الدِّرَّةُ قَالَ: فِعْلا صَاحِبَيَّ ضَرْبًا بِالدِّرَّةِ أَقْبَلْتَ فِي الْحَرَمِ وَسَفَّهْتَ فِي الْحُكْمِ قَالَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلِيَّ، فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَا أَحِلُّ الْيَوْمَ شَيْئًا يَحْرُمُ عَلَيْكَ مِنِّي، فَقَالَ: يَا قَبِيصَةُ بْنَ جَابِرٍ إِنِّي أَرَاكَ شَابَّ السِّنِّ فَسِيحَ الصَّدْرِ بَيِّنَ اللِّسَانِ، وَإِنَّ الشَّابَّ يَكُونُ فِيهِ تِسْعَةُ أَخْلَاقٍ حَسِنَةٍ وَخُلُقٌ سَيِّئٌ فَيُفْسِدُ الْخُلُقُ السَّيِّئُ الْأَخْلَاقَ الْحَسِنَةَ، فَإِيَّاكَ وَعَثَرَاتَ الشَّبَابِ ".
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ طُرُقًا أُخْرَى لِأَثَرِ قَبِيصَةَ ثُمَّ نَقَلَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ الْبَجَلِيَّ قَالَ أَصَبْتُ ظَبْيًا وَأَنَا مُحْرِمٌ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَقَالَ: ائْتِ رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِكَ فَلْيَحْكُمَا عَلَيْكَ، فَأَتَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَسَعْدًا فَحَكَمَا عَلِيَّ بِتَيْسٍ أَعْفَرَ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ رَجُلًا رَمَى ظَبْيًا فَقَتَلَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَأَتَى عُمَرَ لِيَحْكُمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: احْكُمْ مَعِي فَحَكَمَا فِيهِ بِجَدْيٍ قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى.
(ثُمَّ قَالَ) : وَاخْتَلَفُوا هَلْ تُسْتَأْنَفُ الْحُكُومَةُ فِي كُلِّ مَا يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ فَيَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ ذَوَا عَدْلٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ مَنْ قَبْلِهِ الصَّحَابَةُ؟ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى عَدْلَيْنِ
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: بَلْ يَجِبُ الْحُكْمُ فِي كُلِّ فَرْدٍ سَوَاءٌ وُجِدَ لِلصَّحَابَةِ فِي مِثْلِهِ حُكْمٌ أَمْ لَا.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِتَحْكِيمِ الْعَدْلَيْنِ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْمِثْلِ الْقِيمَةَ، قَالُوا لِأَنَّ التَّقْوِيمَ هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ دُونَ الْمُمَاثَلَةِ، وَالظَّاهِرُ خِلَافُ ذَلِكَ، لِأَنَّ قِيَمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِمَّا يَعْرِفُهُ كُلُّ النَّاسِ فِي الْغَالِبِ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فِي دَقَائِقِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ الْوَحْشِيَّةِ عَلَى كَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِ صُوَرِهَا وَطِبَاعِهَا وَبَيْنَ الْأَنْعَامِ عَلَى قِلَّتِهَا وَتَقَارُبِ صِفَاتِهَا، وَمَالَ الْآلُوسِيُّ إِلَى جَعْلِ كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ مُحْتَاجًا إِلَى هَذَا الِاجْتِهَادِ مِنَ الْحَكَمَيْنِ، جَمْعًا بَيْنَ مَذْهَبِهِ الْأَوَّلِ وَمَذْهَبِهِ الثَّانِي إِذْ كَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ ثُمَّ صَارَ مُفْتِي الْحَنَفِيَّةَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute