للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حَبِّ اللهِ لَهُمْ وَرِضَاهُ عَنْهُمْ إِذْ فَضَّلَهُمْ بِهَا عَلَى غَيْرِهِمْ (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٣٤: ٣٥) .

أَيْ لَا يَسْتَوِيَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا وَلَا عِنْدَ اللهِ وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ كَثْرَةَ الْخَبِيثِ أَعْجَبَتْكَ وَغَرَّتْكَ فَصِرْتَ بَعِيدًا عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَهِيَ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْحَلَالِ كَرَاتِبِ الْحَاكِمِ الْعَادِلِ وَرِبْحِ التَّاجِرِ الصَّادِقِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْحَرَامِ كَالرَّشْوَةِ وَالْخِيَانَةِ، بِاعْتِبَارِ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَأَنَّ الْقَلِيلَ الْجَيِّدَ مِنَ الْغِذَاءِ أَوِ الْمَتَاعِ خَيْرٌ مِنَ الْكَثِيرِ الرَّدِيءِ الَّذِي لَا يُغْنِي غِنَاءَهُ وَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ، بَلْ رُبَّمَا يَضُرُّ آكِلَهُ وَيُفْسِدُ عَلَيْهِ مَعِدَتَهُ.

كَذَلِكَ الْقَلِيلُ الطَّيِّبُ مِنَ النَّاسِ خَيْرٌ مِنَ الْكَثِيرِ الْخَبِيثِ، فَالْفِئَةُ الْقَلِيلَةُ مِنْ أَهْلِ الشَّجَاعَةِ وَالثَّبَاتِ وَالْإِيمَانِ تَغْلِبُ الْفِئَةَ الْكَثِيرَةَ مِنْ ذَوِي الْجُبْنِ وَالتَّخَاذُلِ وَالشِّرْكِ، وَإِنَّ أَفْرَادًا مَنْ أُولِي الْبَصِيرَةِ وَالرَّأْيِ، لَيَأْتُونَ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْجَمَاعَاتُ مِنْ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ وَالْخَرَقِ، وَالْعَالَمُ الْحَكِيمُ يُسَخَّرُ لِخِدْمَتِهِ أُلُوفٌ مِنَ الْجَاهِلِينَ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (٣٩: ٩) .

كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْخَرُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِكَثْرَتِهِمْ وَيَعْتَزُّونَ بِهَا (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا) (٣٤: ٣٥) فَضَرَبَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ مَثَلَ الْكَافِرِ الَّذِي فَاخَرَ الْمُؤْمِنَ بِقَوْلِهِ: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) (١٨: ٣٤) وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ خُسْرًا وَقَالَ لَهُمْ: (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (٨: ١٩) ثُمَّ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ تَثْبِيتًا لَهُمْ حَتَّى لَا تُرَوِّعَهُمْ كَثْرَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) (٨: ٢٦) وَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ وَهِيَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِصِفَةِ الشَّيْءِ لَا بِعَدَدِهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْعِزَّةُ بِالْكَثْرَةِ بَعْدَ التَّسَاوِي فِي الصِّفَاتِ.

وَلَمَّا كَانَ مِنْ دَأْبِ أَهْلِ الْغَفْلَةِ وَالْجَهْلِ وَالْغُرُورِ بِالْكَثْرَةِ مُطْلَقًا، قَالَ تَعَالَى تَعْقِيبًا عَلَى مَا أَثْبَتَهُ مِنْ تَفْضِيلِ الطَّيِّبِ عَلَى الْخَبِيثِ وَإِنْ كَثُرَ الْخَبِيثُ: (فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أَيْ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أَصْحَابَ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ وَلَا تَغْتَرُّوا بِكَثْرَةِ الْمَالِ الْخَبِيثِ وَلَا بِكَثْرَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالْفَسَادِ مِنَ الْخَبِيثِينَ، فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ تَعَالَى هِيَ الَّتِي تَنْظِمُكُمْ فِي سِلْكِ الطَّيِّبِينَ، فَيُرْجَى لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْمُفْلِحِينَ، أَيْ فَائِزِينَ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَإِنَّمَا خَصَّ أُولِي الْأَلْبَابِ بِالذِّكْرِ فِي عَجُزِ الْآيَةِ بَعْدَ مُخَاطَبَةِ كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي صَدْرِهَا لِأَنَّ أَهْلَ الْبَصِيرَةِ وَالرَّوِيَّةِ مِنَ الْعُقَلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا أَوَائِلُهَا وَمُقَدِّمَاتُهَا، بَعْدَ التَّأَمُّلِ فِي حَقِيقَتِهَا وَصِفَاتِهَا، فَلَا يُصِرُّونَ عَلَى الْغُرُورِ بِكَثْرَةِ الْخَبِيثِ بَعْدَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ، وَأَمَّا الْأَغْرَارُ وَالْغَافِلُونَ الَّذِينَ لَمْ يُمَرِّنُوا عُقُولَهُمْ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ فِي النَّظَرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>