للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَنْحَى بِهَا عَلَى أَهْلِ الرَّأْيِ أَشَدَّ الْإِنْحَاءِ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ الَّذِي تَمَكَّنَتْ فِيهِ الْمَذَاهِبُ الْقِيَاسِيَّةُ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ، بِتَقْلِيدِ الْجَمَاهِيرِ وَتَأْيِيدِ الْحُكُومَاتِ لَهَا وَمَا حُبِسَ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْأَوْقَافِ، حَتَّى صَارَ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْهَا يُقَدِّمُونَ قَوْلَ كُلِّ مُؤَلِّفٍ مُنْتَسِبٍ إِلَيْهَا، عَلَى نُصُوصِ الشَّارِعِ الَّتِي اتَّفَقَ نَقَلَةُ الدِّينَ عَلَى صِحَّتِهَا، فَمَا اسْتَفَادَ مِنْ كُتُبِ ابْنِ حَزْمٍ إِلَّا الْأَقَلُّونَ. وَعِنْدِي أَنَّ الصَّارِفَ الْأَكْبَرَ لِلنَّاسِ عَنْ كُتُبِهِ هُوَ شِدَّةُ عِبَارَتِهِ فِي تَجْهِيلِ فُقَهَاءِ الْقِيَاسِ حَتَّى الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ مِنْهُمْ وَقَدْ كَانَ أَكَابِرُ الْعُلَمَاءِ فِي كُلٍّ يَسْتَفِيدُونَ مِنْ كُتُبِهِ وَيَنْسَخُونَهَا بِأَقْلَامِهِمْ وَيَتَنَافَسُونَ فِيهَا، وَلَكِنْ قَلَّمَا كَانُوا يَنْقُلُونَ عَنْهَا إِلَّا مَا يَجِدُونَهُ مِنْ هَفْوَةٍ يَرُدُّونَ عَلَيْهَا; وَلِذَلِكَ بَعُدَ مِنْ مَنَاقِبِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الَّذِي اعْتَرَفُوا لَهُ بِالِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ وَلُقِّبَ بِسُلْطَانِ الْعُلَمَاءِ، قَوْلُهُ لِمَنْ سَأَلَ عَنْ خَيْرِ كُتُبِ الْفِقْهِ فِي الْإِسْلَامِ (الْمُحَلَّى) لِابْنِ حَزْمٍ، وَ (الْمُغْنِي) لِلشَّيْخِ الْمُوَفَّقِ. وَفِي دَارِ الْكُتُبِ الْكُبْرَى بِمِصْرَ نُسْخَةٌ مِنْ كِتَابِ (الْإِحْكَامِ فِي أُصُولِ الْأَحْكَامِ) لِابْنِ حَزْمٍ مِنْ خَطِّ عَلَّامَةِ الشَّافِعِيَّةِ فِي عَصْرِهِ ابْنِ أَبِي شَامَةَ، فَهَذَا الْأَثَرُ وَذَلِكَ الْقَوْلُ يَدُلَّانِ عَلَى عِنَايَةِ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ بِكُتُبِ ابْنِ حَزْمِ وَحِرْصِهِمْ عَلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا.

لَمْ يَجِئْ بَعْدَ الْإِمَامِ ابْنِ حَزْمٍ مَنْ يُسَامِيهِ أَوْ يُسَاوِيهِ فِي سَعَةِ عِلْمِهِ وَقُوَّةِ حُجَّتِهِ وَطُولِ بَاعِهِ وَحِفْظِهِ لِلسُّنَّةِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ إِلَّا شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُجَدِّدُ الْقَرْنِ السَّابِعِ أَحْمَدُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ، وَهُوَ قَدِ اسْتَفَادَ مَنْ كُتُبِ ابْنِ حَزْمٍ وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهَا

وَحَرَّرَ مَا كَانَ مِنْ ضَعْفٍ فِيهَا، وَكَانَ عَلَى شِدَّتِهِ فِي الْحَقِّ مِثْلَهُ أَنْزَهَ مِنْهُ قَلَّمَا أَوْ أَكْثَرَ أَدَبًا مَعَ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ الْقِيَاسَ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الْمُوَافِقِ لِلنُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ الْبَاطِلِ الْمُخَالِفِ لَهَا بِمَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فِيمَا نَعْلَمُ.

وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَيِّمِ وَارِثَ عِلْمِ أُسْتَاذِهِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَمُوَضِّحَهُ، وَكَانَ أَقْرَبَ مِنْ أُسْتَاذِهِ إِلَى اللِّينِ وَالرِّفْقِ بِالْمُبْطِلِينَ وَالْمُخْطِئِينَ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ تَصَانِيفُهُ أَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ، وَلَمْ يَلْقَ مِنَ الْمُقَاوَمَةِ وَالِاضْطِهَادِ مَا لَقِيَ أُسْتَاذُهُ بِتَعَصُّبِ مُقَلِّدَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ، وَجَهْلِ الْحُكَّامِ الظَّالِمِينَ.

وَإِنَّ أَنْفَعَ مَا كُتِبَ بَعْدَهُمْ لِأَنْصَارِ السُّنَّةِ كِتَابُ (فَتْحِ الْبَارِي) شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ لِقَامُوسِ السُّنَّةِ الْمُحِيطِ الْحَافِظِ أَحْمَدَ بْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ شَيْخِ الْحُفَّاظِ وَالْفُقَهَاءِ بِمِصْرَ فِي الْقَرْنِ التَّاسِعِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي لَا يَكَادُ يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَحَدٌ يَخْدِمُ السُّنَّةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ; لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِخُلَاصَةِ كُتُبِ السُّنَّةِ وَزُبْدَةِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْفِقْهِ وَالْآدَابِ، وَمِنْ أَنْفَعِهَا فِي كُتُبِ فِقْهِ الْحَدِيثِ كِتَابُ (نَيْلِ الْأَوْطَارِ) شَرْحِ مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ، وَمِنْ كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ كِتَابُ (إِرْشَادِ الْفُحُولِ فِي تَحْقِيقِ الْحَقِّ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ) كِلَاهُمَا لِلْإِمَامِ

<<  <  ج: ص:  >  >>