للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(مُلَخَّصُ مَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ) .

عَقَدَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ (إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فَصْلًا فِي تَحْرِيمِ الْإِفْتَاءِ فِي دِينِ اللهِ بِالرَّأْيِ الْمُخَالِفِ لِلنُّصُوصِ، صَدَّرَهُ بِآيَاتٍ أَوَّلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٨: ٥٠) قَالَ: فَقَسَّمَ الْأَمْرَ إِلَى أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا إِمَّا الِاسْتِجَابَةُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَإِمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى، فَكُلُّ مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ الرَّسُولُ فَهُوَ مِنَ الْهَوَى، وَقَفَّى عَلَى الْآيَاتِ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَوَّلُهَا حَدِيثُ

عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ: " إِنَّ اللهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ إِذْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْزِعُهُ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ " وَحَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ: " تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا فِتْنَةً قَوْمٌ يَقِيسُونَ الدِّينَ بِرَأْيِهِمْ يُحَرِّمُونَ بِهِ مَا أَحَلَّ اللهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ " رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ.

ثُمَّ أَوْرَدَ فَصْلًا بَلْ فَصْلَيْنِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَالْعَبَادِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ وَمِنْهَا قَوْلُ عُمَرَ: " إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَعُوهَا، وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا. فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " وَلِلْأَثَرِ أَلْفَاظٌ أُخْرَى، قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَأَسَانِيدُ هَذِهِ الْآثَارِ عَنْ عُمَرَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ.

ثُمَّ عَقَدَ فَصْلًا آخَرَ ذَكَرَ فِيهِ مَا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الرَّأْيِ مِنْ إِفْتَاءِ بَعْضِ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَقَضَائِهِمْ بِالرَّأْيِ، كَقَوْلِ عُمَرَ لِكَاتِبِهِ: " قُلْ: هَذَا مَا رَأَى عُمَرُبْنُ الْخَطَّابِ " وَقَوْلِ عُثْمَانَ فِي الْأَمْرِ بِإِفْرَادِ الْعُمْرَةِ عَنِ الْحَجِّ: " إِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَأَيْتُهُ " وَقَوْلِ عَلِيٍّ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ: " اتَّفَقَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ عَلَى أَلَّا يَبِعْنَ " وَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ عَلَى الْقَضَاءِ بِكِتَابِ اللهِ إِنْ وُجِدَ فِيهِ الْحُكْمُ وَإِلَّا فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِمَا مَا يُقْضَى بِهِ، جَمَعُوا لَهُ النَّاسَ أَوْ رُؤَسَاءَ النَّاسِ، وَفِي رِوَايَةٍ: عُلَمَاءَ النَّاسِ وَكِلَاهُمَا صَوَابٌ فَقَدْ كَانَ الرُّؤَسَاءُ عُلَمَاءَ وَاسْتَشَارُوهُمْ، وَكَانَ يَكُونُ الْقَضَاءُ بِمَا يَجْتَمِعُ رَأْيُهُمْ عَلَيْهِ. وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.

وَمِنْهُ مَا فِي كِتَابِ عُمَرَ إِلَى شُرَيْحٍ: " إِذَا وَجَدْتَ شَيْئًا فِي كِتَابِ اللهِ فَاقْضِ بِهِ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ أَتَاكَ شَيْءٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَاقْضِ بِمَا سَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَمْ يَسُنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْضِ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ

النَّاسُ، وَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَمْ يَسُنَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْتَهِدَ رَأْيَكَ فَتَقَدَّمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَتَأَخَّرَ فَتَأَخَّرَ، وَمَا أَرَى التَّأَخُّرَ إِلَّا خَيْرًا لَكَ " وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ جَرِيرٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَمْرِهِ بِأَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ عِنْدَ عَدَمِ

<<  <  ج: ص:  >  >>