للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

النَّصِّ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَلَامٌ بِمَعْنَى هَذَا، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَالَةِ الثَّالِثَةِ لِمَنْ عَرَضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ: " فَإِنْ جَاءَهُ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ " وَقَالَ فِي الْحَالَةِ الرَّابِعَةِ: " فَلْيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ وَلَا يَقُلْ إِنِّي أَرَى وَإِنِّي أَخَافُ، فَإِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ " اهـ.

وَمُرَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِالصَّالِحِينَ هُوَ عَيْنُ مُرَادِ عُمَرَ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي كِتَابِهِ إِلَى شُرَيْحٍ، كَالَّذِينِ كَانَ يَسْتَشِيرُهُمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَقُولُ: هَذَا زُبْدَةُ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَغَيْرِهِ بِمَعْنَاهُ. وَكُلُّهُ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْقَضَاءِ إِلَّا رَأْيَ عُثْمَانَ فِي إِفْرَادِ الْعُمْرَةِ عَنِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ فِي مَسْأَلَةٍ دِينِيَّةٍ، وَهُوَ شَاذٌّ وَلَا حُجَّةَ فِي مِثْلِ هَذَا بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِالْعَمَلِ بِهِ، بَلْ تَرَكَهُ إِلَى النَّاسِ وَهُمْ مُخَيَّرُونَ فِيهِ شَرْعًا. وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ فَهُوَ لَيْسَ بِرَأْيِ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا تِلْكَ سُنَّتُهُمُ الَّتِي جَرَوْا عَلَيْهَا، وَاهْتَدَى بِهِمْ فِيهَا سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ إِجْمَاعًا صَحِيحًا. وَلَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ تَرَكُوا جَمْعَ الْعُلَمَاءِ لِاسْتِشَارَتِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، اكْتِفَاءً بِتَقْلِيدِ مَذَاهِبِهِمْ. وَلَا حُجَّةَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَلَا فِي أَقْوَالِهِمْ فِيهَا عَلَى جَوَازِ اسْتِخْرَاجِ أَحْكَامٍ لَمْ يَرِدْ فِيهَا قُرْآنٌ وَلَا سُنَّةٌ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، كَمَا فَعَلَ الْمُؤَلِّفُونَ فِي الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا الِاجْتِهَادُ وَالرَّأْيُ فِي الْأَقْضِيَةِ الَّتِي تَحْدُثُ لِلنَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أُمُورِ السِّيَاسَةِ، وَهِيَ الَّتِي فَوَّضَ اللهُ أَمْرَهَا إِلَى أُولِي الْأَمْرِ بِشَرْطِهِ.

الْجَمْعُ بَيْنَ إِثْبَاتِ الرَّأْيِ وَإِنْكَارِهِ.

ثُمَّ عَقَدَ ابْنُ الْقَيِّمِ فَصْلًا لِلْفَصْلِ بَيْنَ الرَّأْيِ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ وَالَّذِي لَا يُعْمَلُ بِهِ فَقَالَ:

" وَلَا تَعَارُضَ بِحَمْدِ اللهِ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ، عَنِ السَّادَةِ الْأَخْيَارِ، بَلْ كُلُّهَا حَقٌّ وَكُلٌّ مِنْهَا لَهُ وَجْهٌ. وَهَذَا إِنَّمَا يُتَبَيَّنُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الرَّأْيِ الْبَاطِلِ الَّذِي لَيْسَ مِنَ الدِّينِ وَالرَّأْيِ الْحَقِّ الَّذِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَنَقُولُ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ:

الرَّأْيُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ رَأَى الشَّيْءَ يَرَاهُ رَأْيًا، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْمَرْئِيِّ نَفْسِهِ، مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ الْمَصْدَرِ فِي الْمَفْعُولِ، كَالْهَوَى فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ هَوِيَهُ يَهْوَاهُ هَوًى، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يُهْوَى فَيُقَالُ: هَذَا هَوَى فُلَانٍ. وَالْعَرَبُ تُفَرِّقُ بَيْنَ مَصَادِرِ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ بِحَسَبِ مَحَالِّهَا، فَتَقُولُ: رَأَى كَذَا فِي النَّوْمِ رُؤْيَا وَرَآهُ فِي الْيَقَظَةِ رُؤْيَةً، وَرَأَى كَذَا رَأَيًا لِمَا يُعْلَمُ بِالْقَلْبِ وَلَا يُرَى بِالْعَيْنِ وَلَكِنَّهُمْ خَصَّوْهُ بِمَا يَرَاهُ الْقَلْبُ بَعْدَ فَكٍّ وَتَأَمُّلٍ،

<<  <  ج: ص:  >  >>