الْفَصْلُ الثَّانِي فِي سُقُوطِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ وَبُطْلَانِهَا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ ".
" الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ (أَنَّ) أَحْكَامَ الشَّرْعِ كُلَّهَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ " وَلَيْسَ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ حُكْمٌ يُخَالِفُ الْمِيزَانَ وَالْقِيَاسَ الصَّحِيحَ. وَهَذِهِ الْفُصُولُ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَهَمِّ فُصُولِ الْكِتَابِ، وَبِهَا يَتَبَيَّنُ لِلْعَالِمِ الْمُنْصِفِ مِقْدَارُ الشَّرِيعَةِ وَجَلَالَتُهَا وَهُنَيَّتُهَا وَسَعَتُهَا وَفَضْلُهَا وَشَرَفُهَا عَلَى جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ عَامُّ الرِّسَالَةِ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، فَرِسَالَتُهُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَدَقِيقِهِ وَجَلِيلِهِ، فَكَمَا لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ عَنْ رِسَالَتِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَخْرُجُ حُكْمٌ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ عَنْهُ وَعَنْ بَيَانِهِ لَهُ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّا لَا نُوَفِّي هَذِهِ الْفُصُولَ حَقَّهَا وَلَا نُقَارِبُ، وَأَنَّهَا أَجَلُّ مِنْ عُلُومِنَا، وَفَوْقَ إِدْرَاكِنَا، وَلَكِنْ نُنَبِّهُ أَدْنَى تَنْبِيهٍ وَنُشِيرُ أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى مَا نَفْتَحُ أَبْوَابَهَا وَنَنْهَجُ طُرُقَهَا وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ " اهـ.
أَقُولُ: إِنَّنَا لَمْ نَجِدْ فِي الْكِتَابِ إِلَّا فَصَلَيْنِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي وَعَدَ بِهَا، الْأَوَّلُ فِي شُمُولِ النُّصُوصِ وَإِغْنَائِهَا عَلَى الْقِيَاسِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ كُلِّهَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَالْمِيزَانِ الْمُسْتَقِيمِ وَالْمُوَافِقَةِ لِعُقُولِ الْبَشَرِ وَمَصَالِحِهِمْ، وَلَا نَدْرِي أَسَقَطَ الْفَصْلُ الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ سُقُوطَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ؟ أَمْ أَغْفَلَ كِتَابَتَهُ بَعْدَ الْوَعْدِ بِهِ نِسْيَانًا لِلْوَعْدِ وَاكْتِفَاءً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، وَكَوْنِ مَنْ يُعْتَدُّ بِدِينِهِ وَعِلْمِهِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ كَرَبِيعَةَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لَمْ يُثْبِتُوا حُكْمًا فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا نَصٌّ بِالْقِيَاسِ إِلَّا إِذَا كَانُوا غَيْرَ عَالِمِينَ بِالنَّصِّ أَوْ غَيْرَ ثَابِتٍ عِنْدَهُمْ، أَوْ لَمْ يَفْهَمُوا الْحُكْمَ مِنْهُ.
(شُمُولُ النُّصُوصِ لِلْأَحْكَامِ وَتَفَاوُتُ الْأَفْهَامِ فِيهَا) .
وَقَدْ صُدِّرَ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ بِمُقَدِّمَةٍ نَفِيسَةٍ فِي نَوْعَيِ الدَّلَالَةِ وَتَفَاوُتِ الْأَفْهَامِ فِي النُّصُوصِ فَقَالَ:
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) فِي شُمُولِ النُّصُوصِ وَإِغْنَائِهَا عَنِ الْقِيَاسِ، وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى بَيَانِ مُقَدِّمَةٍ، وَهِيَ: أَنَّ دَلَالَةَ النُّصُوصِ نَوْعَانِ: حَقِيقِيَّةٌ وَإِضَافِيَّةٌ. فَالْحَقِيقَةُ تَابِعَةٌ لِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِرَادَتِهِ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ لَا تَخْتَلِفُ، وَالْإِضَافِيَّةُ تَابِعَةٌ لِفَهْمِ السَّامِعِ وَإِدْرَاكِهِ وَجَوْدَةِ فِكْرِهِ وَقَرِيحَتِهِ وَصَفَاءِ ذِهْنِهِ وَمَعْرِفَتِهِ الْأَلْفَاظَ وَمَرَاتِبَهَا، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ تَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بِحَسَبِ تَبَانِي السَّامِعِينَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو أَحْفَظَ الصَّحَابَةِ لِلْحَدِيثِ وَأَكْثَرَهُمْ رِوَايَةً لَهُ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَفْقَهَ مِنْهُمَا، بَلْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَفْقَهُ مِنْهُمَا وَمِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ.
"
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute