غَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي رَوَى فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ أَوْ إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ " كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ لَمْ يَكُونَا يُحَرِّمَانِ رِبَا الْفَضْلِ، وَقِيلَ: رَجَعَا عَنْ ذَلِكَ، وَجَزَمَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بِرُجُوعِ الثَّانِي وَالِاخْتِلَافُ فِي رُجُوعِ الْأَوَّلِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمَا بِالرِّبَا مَا نَزَلَ فِيهِ وَعِيدُ
الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِهِ فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ. وَذَهَبَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي هَذَا السِّيَاقِ إِلَى مَا اعْتَمَدَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَصْرُ الْكَمَالِ، أَيْ أَنَّ الرِّبَا التَّامَّ الْكَامِلَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ (قَالَ) : فَإِنَّ رِبَا الْفَضْلِ إِنَّمَا سُمِّيَ رِبًا تَجَوُّزًا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَقْصِدِ عَلَى الْوَسِيلَةِ، وَهُوَ نَحْوٌ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الْآتِي.
وَأَقُولُ: هُوَ مِنْ قَبِيلِ إِطْلَاقِ اسْمِ الزِّنَا عَلَى النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِشَهْوَةٍ. وَإِنَّمَا حَرَّمَ هَذَا النَّظَرَ وَالْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ كَرِبَا الْفَضْلِ.
(قَالَ) : وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَتَحْرِيمُهُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَاءَ " وَالرَّمَاءُ هُوَ الرِّبَا، فَمَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ لِمَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ، إِلَى آخَرِ مَا قَالَهُ فِي إِيضَاحِ ذَلِكَ وَهُوَ وَاضِحٌ.
(٢) بَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي سِتَّةِ أَعْيَانٍ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ، ثُمَّ قَالَ: فَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهَا مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ أَيْ كَبَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْقَمْحِ بِالْقَمْحِ، بِخِلَافِ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، وَالْقَمْحِ بِالشَّعِيرِ مَثَلًا، فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوهُ وَتَنَازَعُوا فِيمَا عَدَاهَا، فَطَائِفَةٌ قَصَرَتِ التَّحْرِيمَ عَلَيْهَا، وَأَقْدَمُ مَنْ يَرْوِي هَذَا عَنْ قَتَادَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَاخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ (هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ) فِي آخِرِ مُصَنَّفَاتِهِ مَعَ قَوْلِهِ بِالْقِيَاسِ، قَالَ: لِأَنَّ عِلَلَ الْقِيَاسَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا ضَعِيفَةٌ، وَإِذَا لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ عِلَّةٌ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ.
(٣) بَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ الْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي تِلْكَ الْأَعْيَانِ السِّتَّةِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْحَدِيثُ. فَأَمَّا الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عِلَّتَهُ كَوْنُهُ مَكِيلًا وَمَوْزُونًا فَيَجْرِي الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ، وَذَهَبَ بَعْضٌ آخَرُ إِلَى أَنَّ عِلَّتَهُ كَوْنُهُ طَعَامًا، وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فَيَجْرِي عَلَى كُلِّ مَا يُطْعَمُ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ كَوْنُهَا قُوتَ النَّاسِ، وَعِبَارَةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute