للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ابْنُ الْقَيِّمِ: وَطَائِفَةٌ خَصَّتْهُ بِالْقُوتِ وَمَا يَصْلُحُهُ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَهُوَ أَرْجَحُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كَمَا سَتَرَاهُ. أَقُولُ: وَاعْتَبَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْقُوتِ

مَا يُدَّخَرُ. وَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فَالْعِلَّةُ فِيهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ الْوَزْنُ، فَيَجْرِي الرِّبَا عَلَى هَذَا فِي كُلِّ مَوْزُونٍ وَكُلِّ مَكِيلٍ مِنَ الْمَعَادِنِ كَغَيْرِهَا، وَهَذَا أَوْسَعُ الْأَقْوَالِ وَأَشَدُّهَا فِي الرِّبَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهَا الثَّمَنِيَّةُ؛ أَيْ كَوْنُهَا مِعْيَارَ الْأَثْمَانِ فِي الْمُعَامَلَاتِ كُلِّهَا. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ بَلِ الصَّوَابُ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْأَدِلَّةَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَوَّلُهَا: الْإِجْمَاعُ عَلَى إِسْلَامِهِمَا فِي الْمَوْزُونَاتِ مِنَ النُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهِمَا، فَلَوْ كَانَ النُّحَاسُ وَالْحَدِيدُ رِبَوِيَّيْنِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُمَا إِلَى أَجَلٍ بِدَرَاهِمَ نَقْدًا، فَإِنَّ مَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا إِذَا اخْتَلَفَ جِنْسُهُ جَازَ التَّفَاضُلُ فِيهِ دُونَ النَّسَاءِ، وَالْعِلَّةُ إِذَا انْتُقِضَتْ مِنْ دُونِ فَرْقٍ مُؤَثِّرٍ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِهَا إِلَى آخَرِ مَا قَالَهُ.

(٤) بَنَى ابْنُ الْقَيِّمِ بَيَانَ حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا عَلَى الرَّاجِحِ الْمُخْتَارِ مِنْ تَعْلِيلٍ حَصَرَهُ فِي الْأَجْنَاسِ السِّتَّةِ، وَلَا تَظْهَرُ حِكْمَةُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الرِّبَا يَجْرِي فِي كُلِّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ، بَلْ هَذَا التَّضْيِيقُ عَلَى الْعِبَادِ لَا يُعْقَلُ لَهُ حِكْمَةٌ، وَلَا هُوَ عِبَادَةٌ بِالنَّصِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي تَفْسِيرِ آيَاتِهِ مِنْ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ فَيُرَاجَعُ هُنَاكَ وَفِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ.

(٥) بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ مَا حُرِّمَ لِذَاتِهِ لَا يُبَاحُ شَرْعًا إِلَّا لِلضَّرُورَةِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ، وَمَا حُرِّمَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ جَوَازَ بَيْعِ الْحِلْيَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِنُقُودٍ مِنْهُمَا تَزِيدُ عَلَى وَزْنِهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا فِيهَا مِنَ الصَّنْعَةِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا الْجَوَازِ بِأَدِلَّةٍ مَنْقُولَةٍ وَمَعْقُولَةٍ أَيْضًا، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى جَوَازِ رِبَا الْفَضْلِ لِلْمُصْلِحَةِ الرَّاجِحَةِ بِإِبَاحَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الْعَرَايَا، وَذَكَرَ مِنْ نَظَائِرِهِ إِبَاحَةَ نَظَرِ الْخَاطِبِ وَالطَّبِيبِ وَالشَّاهِدِ إِلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ حَتَّى إِنَّ الطَّبِيبَ يَنْظُرُ كُلَّ عُضْوٍ تَتَوَقَّفُ

مُعَالَجَتُهُ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَكَذَا لَمْسُهُ وَإِبَاحَةُ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِمَنْعِ الْحَكَّةِ أَوِ الْقَمْلِ، وَالْأَمْثِلَةُ وَالشَّوَاهِدُ كَثِيرَةٌ.

وَالْغَرَضُ مِمَّا لَخَّصْنَاهُ هُنَا بَيَانُ فَضِيلَةِ الْمَذْهَبِ الْوَسَطِ بَيْنَ مَذْهَبَيْ نَفْيِ الْقِيَاسِ أَلْبَتَّةَ وَالتَّوَسُّعِ فِيهِ بِاسْتِنْبَاطِ الْعِلَلِ الْبَعِيدَةِ. فَمُقْتَضَى مَذْهَبِ ابْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ أَهْلَ قُطْرٍ لَا قُوتَ لَهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>