عَلَى كَوْنِ كِتَابَتِهِ فِي صُحُفٍ مُتَفَرِّقَةٍ هُوَ مَطْلُوبَ الشَّارِعِ، وَإِنَّمَا تَلَبَّثَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الْأَمْرِ أَوَّلًا عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الرَّوِيَّةِ فِي الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، وَنَاهِيكَ بِأَوَائِلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَعْرِضُ عَلَى أَصْحَابِ الْمَنَاصِبِ الْعُلْيَا فِي مَنَاصِبِهِمْ. وَمِنَ الثَّانِي حَدُّ السُّكْرِ، قِيلَ: إِنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى الْقَذْفِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تَعْزِيرٌ لَا يَجِبُ الْتِزَامُ الْعَدَدِ فِيهِ.
وَالْحَقُّ الْجَلِيُّ الظَّاهِرُ أَنَّ مَسَائِلَ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى الْحُكَّامِ مِنْ قَضَائِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ تَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَهُ حَدِيثُ: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ " بِالتَّبَعِ لِآيَاتِ رَفْعِ الْمَضَارَّةِ فِي الْإِرْثِ وَالزَّوْجِيَّةِ أَيْ رَفْعُ الضَّرَرِ الْفَرْدِيِّ وَالْمُشْتَرِكِ، وَمِنْهُ أُخِذَتْ قَاعِدَةُ دَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَحِفْظِ الْمَصَالِحِ مَعَ مُرَاعَاةِ مَا عُلِمَ مِنْ نُصُوصِ الشَّارِعِ وَمَقَاصِدِهِ، وَأَمْثِلَةُ هَذَا فِي أَعْمَالِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَالِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، عَلَى أَنَّ جَمَاهِيرَ الْفُقَهَاءِ يُصَرِّحُونَ دَائِمًا بِإِرْجَاعِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إِلَى الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، فَقَوَاعِدُ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الشَّافِعِيِّ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ أَكْثَرُهَا يَدُورُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ.
إِنَّمَا فَرَّ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ تَقْرِيرِ هَذَا الْأَصْلِ تَقْرِيرًا صَرِيحًا مَعَ اعْتِبَارِهِمْ كُلِّهِمْ لَهُ كَمَا قَالَ الْقَرَافِيُّ خَوْفًا مِنِ اتِّخَاذِ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ إِيَّاهُ حُجَّةً لِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وَإِرْضَاءِ اسْتِبْدَادِهِمْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وَدِمَائِهِمْ، فَرَأَوْا أَنْ يَتَّقُوا ذَلِكَ بِإِرْجَاعِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ
إِلَى النُّصُوصِ وَلَوْ بِضَرْبٍ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الْخَفِيَّةِ، فَجَعَلُوا مَسْأَلَةَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ مِنْ أَدَقِّ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ فِي الْقِيَاسِ وَلِمَ يَنُوطُوهَا بِاجْتِهَادِ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ. وَهَذَا الْخَوْفُ فِي مَحَلِّهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَقِ الْأُمَّةَ مِنْ أَهْوَاءِ الْحُكَّامِ كَمَا يَنْبَغِي، إِذْ كَانَ يُوجَدُ فِي عَهْدِ كُلِّ ظَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ مَنْ يُمَهِّدُ لَهُ الطَّرِيقَ وَلَوْ لِبَعْضِ مَا يُرِيدُ مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى.
وَالطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى لِحِفْظِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ مِيزَانِ الْعَدْلِ: هِيَ رَفْعُ قَوَاعِدِ الْحُكْمِ عَلَى الْأَسَاسِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (٤٢: ٣٨) وَقَوْلِهِ: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٤: ٥٩) كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْجُزْءِ الْخَامِسِ مِنَ التَّفْسِيرِ لَا بِإِنْكَارِ أَصْلِ الْمَصَالِحِ وَلَا بِالتَّضْيِيقِ فِي تَفْرِيعِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا. فَإِذَا نِيطَ ذَلِكَ بِأُولِي الْأَمْرِ أَيْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ الْإِمَامَ (الْخَلِيفَةَ) وَيَكُونُونَ أَهْلَ الشُّورَى لَهُ وَيَكُونُ هُوَ مُقَيَّدًا بِمَا يُقَرِّرُونَهُ فَحِينَئِذٍ لَا يُخْشَى مِنْ جَعْلِ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ ذَرِيعَةً لِلْمَفَاسِدِ مَا يُخْشَى مِنْهُ فِي حَالِ إِقْرَارِ كُلِّ مُتَغَلِّبٍ عَلَى الْحُكْمِ مَعَ التَّضْيِيقِ فِي مَسَالِكِ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ، الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ. وَإِنَّمَا مَثَارُ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا أَنْ يُوَسَّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ. وَأَنْ يُقَرَّ عَلَى الْمُلْكِ كُلُّ مُتَغَلِّبٍ، وَيَرْضَى بِتَقْلِيدِهِ كُلُّ جَائِرٍ جَاهِلٍ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَضَاعَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute