للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَكَ مِنْ حُجَّةٍ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. أُبْطِلَ التَّقْلِيدُ; لِأَنَّ الْحُجَّةَ أَوْجَبَتْ

ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا التَّقْلِيدُ. وَإِنْ قَالَ: بِغَيْرِ عِلْمٍ. قِيلَ لَهُ: فَلِمَ أَرَقْتَ الدِّمَاءَ وَأَبَحْتَ الْفُرُوجَ وَالْأَمْوَالَ وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ؟ فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي أَصَبْتُ وَإِنْ لَمْ أَعْرِفِ الْحُجَّةَ; لِأَنَّ مُعَلِّمِي مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ. قِيلَ لَهُ: تَقْلِيدُ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِكَ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ مُعَلِّمِكَ; لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَنْ مُعَلِّمِكَ، كَمَا لَمْ يَقُلْ مُعَلِّمُكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَنْكَ، فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. تَرَكَ تَقْلِيدَ مُعَلِّمِهِ إِلَى تَقْلِيدِ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِهِ، ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْعَالِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ نُقِضَ قَوْلُهُ وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ وَأَقَلُّ عِلْمًا، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ وَأَغْزَرُ عِلْمًا؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَذَّرَ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " لَا يُقَلِّدَنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا إِنْ آمَنْ مَنَّ وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ " انْتَهَى.

(قُلْتُ) : تَتْمِيمًا لِهَذَا الْكَلَامِ، وَعِنْدَ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْعَالِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ يُقَالُ لَهُ: هَذَا الصَّحَابِيُّ أَخَذَ عِلْمَهُ مَنْ أَعْلَمِ الْبَشَرِ الْمُرْسَلِ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِلَى عِبَادِهِ الْمَعْصُومِ مِنَ الْخَطَأِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَتَقْلِيدُهُ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ إِلَّا شُعْبَةً مِنْ شُعَبِ عُلُومِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْعِصْمَةِ شَيْءٌ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ وَلَا فِعْلَهُ وَلَا اجْتِهَادَهُ حُجَّةً عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.

(وَاعْلَمْ) : أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنْ رَأْيَ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ إِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لَهُ يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِهَا عِنْدَ فَقْدِ الدَّلِيلِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْعَمَلُ بِهَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ; وَلِهَذَا نَهَى كِبَارُ الْأَئِمَّةِ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ عَرَفْتَ حَالَ الْمُقَلِّدِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْخُذُ بالرَّأْيِ لَا بِالرِّوَايَةِ، وَيَتَمَسَّكُ بِمَحْضِ الِاجْتِهَادِ عَنْ مُطَالِبٍ بِحُجَّةٍ فَمَنْ قَالَ: إِنَّ رَأْيَ الْمُجْتَهِدِ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ التَّمَسُّكُ بِهِ وَيَسُوغُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِيمَا كَلَّفَهُ اللهُ، فَقَدْ جَعَلَ هَذَا الْمُجْتَهِدَ صَاحِبَ شَرْعٍ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا يَتَمَكَّنُ كَامِلٌ وَلَا مُقَصِّرٌ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى هَذَا بِحُجَّةٍ قَطُّ. وَأَمَّا مُجَرَّدُ الدَّعَاوَى وَالْمُجَازَفَاتِ فِي شَرْعِ اللهِ تَعَالَى فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ، وَلَوْ جَازَتِ الْأُمُورُ الشَّرْعِيَّةُ بِمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى لَادَّعَى مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ، وَقَالَ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ اهـ.

هَذَا مَا قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ وَإِنَّنَا سَنَعُودُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى فَنَزِيدُهُ بَيَانًا وَتَفْصِيلًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>