النَّاسِ فِيهِ، إِذْ يَكُونُونَ قَدْ فَرَغُوا مِنْ مُعْظَمِ أَعْمَالِ النَّهَارِ، أَوْ لِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ وَقْتُ صَلَاةٍ عِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، فَهُوَ وَقْتُ ذِكْرِ اللهِ الَّذِي يُرْجَى فِيهِ اتِّقَاءُ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ مِنْهُمْ أَيْضًا، أَوْ لِأَنَّ صَلَاةَ الْعَصْرِ هِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى،
أَوْ لِأَنَّهَا تَحْضُرُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَيَتَحَرَّى الْمُؤْمِنُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا مُتَّصِفًا بِالْكَمَالِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ؛ لِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ فَيَكُونُ جَدِيرًا بِالصِّدْقِ مَنْ يَكُونُ قَرِيبَ عَهْدٍ بِهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْمُرَادُ الظُّهْرُ أَوِ الْعَصْرُ; لِأَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ كَانُوا يَقْعُدُونَ لِلْحُكُومَةِ بَعْدَهُمَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الشَّهِيدَيْنِ إِذَا كَانَا غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ فَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ صَلَاةُ أَهْلِ دِينِهِمَا أَيْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عِلَّةِ ذَلِكَ آنِفًا (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) أَيْ فَيُقْسِمُ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْوَصِيَّةِ إِنْ شَكَكْتُمْ فِي صِدْقِهِمَا فِيمَا يُقِرَّانِ بِهِ، أَيْ وَتَسْتَقْسِمُونَهُمَا فَيُقْسِمَانِ، وَالْأَمِينُ يُصَدَّقُ بِالْيَمِينِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْفَاءُ لِلْجَزَاءِ أَيْ تَحْبِسُونَهُمَا فَيُقْدِمَانِ لِأَجْلِ ذَلِكَ عَلَى الْقَسَمِ. قِيلَ: هَذَا خَاصٌّ بِالشُّهُودِ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا اتُّهِمُوا، أَيْ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِمْ أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا. وَقِيلَ: عَامٌّ وَقَدْ نُسِخَ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا نَسْخَ فِي الْآيَاتِ: قَالَ الرَّازِيُّ: وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّفُ الشَّاهِدَ وَالرَّاوِيَ عِنْدَ التُّهْمَةِ، وَيَجِبُ أَنْ يُصَرِّحَا فِي قَسَمِهِمَا بِقَوْلِهِمَا: (لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) أَيْ: لَا نَشْتَرِي بِيَمِينِ اللهِ ثَمَنًا، أَيْ لَا نَجْعَلُ يَمِينَ اللهِ كَالسِّلْعَةِ الَّتِي تُبْذَلُ لِأَجْلِ ثَمَنٍ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَوْ كَانَ الْمُقْسَمُ لَهُ مِنْ أَقَارِبِنَا، وَصَحَّ إِرْجَاعُ الضَّمِيرِ إِلَى الْمُقْسَمِ لِأَجْلِهِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ فَحْوَى الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (٦: ١٥٢) وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (٤: ١٣٥) وَالْمُرَادُ أَنْ يَقُولَ الْمُقْسِمُ: إِنَّهُ يُشْهِدُ اللهَ بِالْقِسْطِ، وَلَا يَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ ثَمَنٌ يَبْتَغِيهِ لِنَفْسِهِ، وَلَا مُرَاعَاةُ قَرِيبٍ لَهُ إِنْ فَرَضَ أَنَّ لَهُ نَفْعًا فِي إِقْرَارِهِ وَقَسَمِهِ، أَيْ وَلَوِ اجْتَمَعَتِ الْمَنْفَعَتَانِ كِلْتَاهُمَا (وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ) وَيَقُولَانِ فِي قَسَمِهِمَا أَيْضًا: وَلَا نَكْتُمُ الشَّهَادَةَ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللهُ تَعَالَى وَأَمَرَ بِأَنْ تُقَامَ لَهُ أَوِ الْمُؤَكَّدَةَ بِالْحَلِفِ بِهِ (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) (٦٥: ٢) ، (إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ) أَيْ إِنَّا إِذَا اشْتَرَيْنَا بِالْقَسَمِ ثَمَنًا أَوْ رَاعَيْنَا بِهِ قَرِيبًا بِأَنْ كَذَبْنَا فِيهِ لِمَنْفَعَةِ أَنْفُسِنَا أَوْ مَنْفَعَةِ قَرَابَةٍ لَنَا، أَوْ كَتَمْنَا شَهَادَةَ اللهِ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا، بِأَنْ ذَكَرْنَا بَعْضَ الْحَقِّ وَكَتَمْنَا بَعْضًا لَمِنَ الْمُتَحَمِّلِينَ لِلْإِثْمِ الْمُتَمَكِّنِينَ فِيهِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِجَزَائِهِ. وَالْإِثْمُ فِي الْأَصْلِ: مَا يَقْعُدُ بِصَاحِبِهِ عَنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ مِنْ مَعْصِيَةٍ وَغَيْرِهِمَا. وَهَذَا التَّعْبِيرُ أَبْلَغُ مِنْ " إِنَّا إِذَا لَآثِمُونَ ".
(فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ " اسْتُحِقَّ " بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِ التَّاءِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيٍّ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَخَلَفٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute