شَهِدَا بِهِ، وَأَنَّهُمَا مَا اعْتَدَيَا عَلَيْهِمَا بِتُهْمَةٍ بَاطِلَةٍ أَوْ مَا اعْتَدَيَا الْحَقَّ فِيمَا اتَّهَمُوهُمَا بِهِ (إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أَيْ وَيَقُولَانِ فِي قَسَمِهِمَا: إِنَّا إِذَا اعْتَدَيْنَا الْحَقَّ وَقُلْنَا الْبَاطِلَ لَدَاخِلُونَ فِي عِدَادِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَعْرِيضِهَا لِسُخْطِ اللهِ تَعَالَى وَانْتِقَامِهِ، أَوِ الظَّالِمِينَ لِمَنِ ائْتَمَنَهُمَا مَيِّتُهُمْ، وَظُلْمُهُمَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حِكْمَةَ شَرْعِهِ لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَهَذِهِ الْأَيْمَانِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الثِّقَةِ وَالِائْتِمَانِ، فَقَالَ:
(ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ تَكْلِيفِ الْمُؤْتَمَنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْقِيَامَ عَلَى مَشْهَدٍ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَإِقْسَامَهُ تِلْكَ الْأَيْمَانَ الْمُغَلَّظَةَ أَقْرَبُ الْوَسَائِلِ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الشُّهَدَاءُ الشَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا بِلَا تَغْيِيرٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، تَعْظِيمًا لِلَّهِ وَرَهْبَةً مِنْ عَذَابِهِ، وَرَغْبَةً فِي ثَوَابِهِ، أَوْ خَوْفًا مِنَ الْفَضِيحَةِ الَّتِي تَعْقُبُ اسْتِحْقَاقَهُمَا الْإِثْمَ فِي الشَّهَادَةِ بِرَدِّ أَيْمَانٍ إِلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ تَكُونُ مُبْطِلَةً لَهَا، فَمَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ خَوْفُ اللهِ وَتَعْظِيمُهُ أَنْ يَكْذِبَ أَوْ يَخُونَ لِضَعْفِ دِينِهِ يَمْنَعْهُ خَوْفُ الْفَضِيحَةِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ.
(وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أَيْ وَاتَّقَوُا اللهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي الشَّهَادَةِ وَالْأَمَانَةِ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ، وَاسْمَعُوا سَمْعَ إِجَابَةٍ وَقَبُولِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ
وَسَائِرِ مَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ، فَإِنْ لَمْ تَتَّقُوا وَتَسْمِعُوا كُنْتُمْ فَاسِقِينَ عَنْ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى مَحْرُومِينَ مِنْ هِدَايَتِهِ مُسْتَحِقِّينَ لِعِقَابِهِ.
(إِيضَاحٌ لِتَفْسِيرِ الْآيَاتِ وَبَلَاغَتِهَا وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْهَا) .
قَالَ الرَّازِيُّ بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ إِعْرَابًا وَنَظْمًا وَحُكْمًا، وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الْبَسِيطِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " هَذِهِ الْآيَةُ أَعْضَلُ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ " اهـ.
وَأَوْرَدَ الْآلُوسِيُّ فِي رُوحِ الْمَعَانِي عِبَارَةَ الرَّازِيِّ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ دُونَ رِوَايَةِ الْوَاحِدِيِّ عَنْ عُمَرَ، ثُمَّ نَقَلَ مِثْلَهَا عَنِ السَّعْدِ التَّفْتَازَانِيِّ وَعَنِ الطَّبَرَسِيِّ فِي الْآيَتَيْنِ لَا الثَّانِيَةِ فَقَطْ وَقَالَ: إِنَّ الطَّبَرَسِيَّ افْتَخَرَ بِمَا أَتَى فِيهِ وَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ.
أَقُولُ: نَحْنُ لَا يُرَوِّعُنَا مَا يَرَاهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الصُّعُوبَةِ فِي إِعْرَابِ بَعْضِ الْآيَاتِ أَوْ فِي حُكْمِهَا; لِأَنَّ لَهُمْ مَذَاهِبَ فِي النَّحْوِ وَالْفِقْهِ يُزَيِّنُونَ بِهَا الْقُرْآنَ فَلَا يَفْهَمُونَهُ إِلَّا مِنْهَا. وَالْقُرْآنُ فَوْقَ النَّحْوِ وَالْفِقْهِ وَالْمَذَاهِبِ كُلِّهَا، فَهُوَ أَصْلُ الْأُصُولِ، فَمَا وَافَقَهُ فَهُوَ مَقْبُولٌ وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ مَرْذُولٌ، وَإِنَّمَا يُهِمُّنَا مَا يَقُولُهُ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِيهِ فَهُوَ الْعَوْنُ الْأَكْبَرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute