للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَمَّا النَّقْلُ فَقَدْ جَاءَ عَلَى خِلَافِهِ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (٧: ١٥٩) فَإِنَّ حَمْلَ هَذَا عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا أَوْ عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) (٣: ٧٥) فَهَذِهِ شَهَادَةٌ لَهُمْ بِالْأَمَانَةِ وَقَدِ اسْتَشْهَدَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ الْيَهُودِ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فِي التَّوْرَاةِ فَاعْتَرَفَ بِهَا بَعْضُهُمْ لَمَّا أَقْسَمَ عَلَيْهِ بِاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْارَةَ عَلَى مُوسَى [رَاجِعْ ص ٣١٩ ج٦ط الْهَيْئَةِ] وَقَدْ بَيَّنَّا فِي التَّفْسِيرِ مِرَارًا عَدْلَ الْقُرْآنِ وَدِقَّتَهُ فِي الْحُكْمِ بِالْفَسَادِ عَلَى الْأُمَمِ، إِذْ يَحْكُمُ عَلَى الْأَكْثَرِ أَنْ يُسْتَثْنَى بَعْدَ إِطْلَاقِ الْحُكْمِ الْعَامِّ. وَمَا رُوِيَ مِنْ قَبُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِشَهَادَتِهِمْ فِي الْوَصِيَّةِ عَمَلًا بِالْقُرْآنِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي خَبَرِ الْإِنْسَانِ الصِّدْقُ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَأَنَّهُ لَا يَعْدِلُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ إِلَّا عِنْدَ وُجُودِ التُّهْمَةِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ عَدَالَتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْحَافِظِ ابْنِ حَجْرٍ (ص١٩٤) وَبِهَا يَسْقُطُ قِيَاسُ الْكَافِرِ عَلَى الْفَاسِقِ وَقَدْ قَبِلَ الْمُحَدِّثُونَ رِوَايَةَ الْمُبْتَدِعِ الَّذِي يُحَرِّمُ الْكَذِبَ مُطْلَقًا أَوْ فِيمَا عَدَا تَأْيِيدَ بِدْعَتِهِ،

وَأَمَّا سِيرَةُ الْبَشَرِ الْمَعْلُومَةُ بِنَقْلِ الْمُؤَرَّخَيْنِ وَبِسُنَنِ اللهِ فِي أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَطِبَاعِهِمُ الَّتِي هِيَ الْقَانُونُ الْعَقْلِيُّ لِمَنْ يُرِيدُ الْحُكْمَ الصَّحِيحَ عَلَيْهِمْ فَهِيَ مُؤَيِّدَةٌ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ الْعَادِلِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) (٧: ١٠٢) وَقَوْلِهِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ) (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) (وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَهُوَ خَاصٌّ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ فِي طَوْرِ الْفَسَادِ وَضَعْفِ الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ، الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْمِلَلِ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ فَنَنْتَقِلُ إِذًا إِلَى بَيَانِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي نَرَاهَا هِيَ السَّبَبَ الِاجْتِمَاعِيَّ الْحَقِيقِيَّ لِعَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فَنَقُولُ:

[الثَّانِي] : حَالُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ غَيْرِهِمْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ:

إِنَّ حَالَةَ الْأُمَمِ الِاجْتِمَاعِيَّةَ وَالسِّيَاسِيَّةَ وَالْأَدَبِيَّةَ لَهَا شَأْنٌ كَبِيرٌ فِي تَطْبِيقِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْوَقَائِعِ وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ (تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ) وَمَنْ عَرَفَ التَّارِيخَ وَفِقْهَ قَوَاعِدِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ مِنْهُ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَفْقَهُ سَبَبَ إِعْرَاضِ الْفُقَهَاءِ وَالْحُكَّامِ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَأَحَقُّ مَا يَجِبُ فِقْهُهُ مِنْ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ أَرْبَعٌ يَنْبَغِي التَّأَمُّلُ فِيهَا بِعَيْنِ الْعَقْلِ وَالْإِنْصَافِ.

(الْأُولَى) : مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى لِلْإِسْلَامِ مِنَ الِاسْتِمْسَاكِ بِعُرْوَةِ الْحَقِّ

<<  <  ج: ص:  >  >>