وَإِقَامَةِ مِيزَانِ الْعَدْلِ، وَعَدَمِ الْمُحَابَاةِ وَالتَّفْرِقَةِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَقَرِيبٍ وَبِعِيدٍ وَصَدِيقٍ وَعَدُوٍّ، عَمَلًا بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ.
(الثَّانِيَةُ) : مَا كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأُمَمِ الَّتِي فَتَحُوا بِلَادَهَا، وَأَقَامُوا شَرِيعَتَهُمْ فِيهَا مِنْ ضَعْفِ وَازِعِ الدِّينِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، وَقَدْ قَرَّرَ ذَلِكَ مُؤَرِّخُو الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ وَجَعَلُوهُ أَوَّلَ الْأَسْبَابِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ لِسُرْعَةِ الْفَتْحِ الْإِسْلَامِيِّ فِي الْخَافِقَيْنِ.
(الثَّالِثَةُ) : مَا جَرَى عَلَيْهِ الْفَاتِحُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوْسِعَةِ عَلَى أَهْلِ ذِمَّتِهِمْ فِي الِاسْتِقْلَالِ الدِّينِيِّ وَالْمَدَنِيِّ; إِذْ كَانُوا يَسْمَحُونَ لَهُمْ بِأَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى رُؤَسَائِهِمْ فِي الْأُمُورِ الشَّخْصِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَكَانَ مِنَ الْمَعْقُولِ مَعَ هَذَا أَلَّا يُشْهِدُوهُمْ عَلَى قَضَايَا
أَنْفُسِهِمُ الْخَاصَّةِ، وَأَنْ يَمْنَعَهُمْ نَظَرَهُمْ إِلَى مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْأَحْوَالِ الدِّينِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، مَعَ عَدَمِ ثِقَتِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ.
(الرَّابِعَةُ) : تَأْثِيرُ عِزَّةِ السُّلْطَانِ وَعَهْدِ الْفَتْحِ الَّذِي كَانَتِ الْأَحْكَامُ فِيهِ أَشْبَهَ بِمَا يُسَمُّونَهُ الْآنَ بِالْأَحْكَامِ الْعَسْكَرِيَّةِ. وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِأَحْكَامِ دُوَلِ الْإِفْرِنْجِ فِي أَيَّامِ الْحَرْبِ، بَلْ فِي الْمُسْتَعْمَرَاتِ الَّتِي طَالَ عَلَيْهَا عَهْدُ الْفَتْحِ أَوْ مَا يُشْبِهُ الْفَتْحَ. يَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ أَشَدَّ أَحْكَامِ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكَّامِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ مِنْ أَحْكَامِ أَرْقَى أُمَمِ الْمَدَنِيَّةِ مِنْ دُونِهِمْ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ حَالِ الْبَشَرِ أَنَّ الْغَالِبَ قَلَّمَا يَرَى شَيْئًا مِنْ فَضَائِلِ الْمَغْلُوبِ وَإِنْ كَثُرَتْ، فَكَيْفَ يُرْجَى أَنْ يَرَى قَلِيلَهَا الضَّئِيلَ الْخَفِيَّ؟ وَالْجَمَاعَاتُ الْكَبِيرَةُ وَالصَّغِيرَةُ كَالْأَفْرَادِ فِي نَظَرِ كُلٍّ إِلَى نَفْسِهِ وَإِلَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِ بِعَيْنِ الرِّضَا وَإِلَى مُخَالِفِهِ بِعَيْنِ السُّخْطِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ فُضْلَيَاتِ نِسَاءِ سِوِيسَرَةَ دِينًا وَأَدَبًا وَعِلْمًا رَاقَبَتْ أَحْوَالَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَسِيرَتَهُ مُدَّةً طَوِيلَةً إِذْ كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى مَدَرَسَةِ (جِنِيفْ) لِتَلَقِّي آدَابِ اللُّغَةِ الْفَرَنْسِيَّةِ، وَكَلَّمَتْهُ مِرَارًا فِي مَسَائِلِ عِلْمِ الْأَخْلَاقِ وَالتَّرْبِيَةِ وَكَانَتْ بَارِعَةً وَمُصَنِّفَةً فِيهِمَا فَأَعْجَبَهَا رَأْيُهُ، كَمَا أَعْجَبَهَا فَضْلُهُ وَهَدْيُهُ، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّنِي لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ قَبْلَ أَنْ عَرَفْتُكَ أَنَّ الْقَدَاسَةَ تُوجَدُ فِي غَيْرِ الْمَسِيحِيِّينَ.
فَمَنْ تَأَمَّلَ مَا ذُكِرَ تَجَلَّتْ لَهُ الْأَسْبَابُ الْمَعْنَوِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ الَّتِي صَدَّتِ الْحُكَّامَ وَالْفُقَهَاءَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَتَعَجَّبَ مِنْ سَعَةِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، الَّتِي يَتَوَهَّمُ الْجَاهِلُونَ أَنَّهَا ضِدُّ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِطْلَاقِ وَمُوَافَقَةِ كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَتَرَاهُمْ يَنْسُبُونَ إِلَى الْقُرْآنِ كُلَّ مَا يُنْكِرُونَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ آرَائِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ بِالْحَقِّ أَوْ بِالْبَاطِلِ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَامِلِينَ بِالْقُرْآنِ كَمَا يَجِبُ لَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ، بَلْ لَاتَّبَعَهُمُ النَّاسُ فِي هَدْيِهِمْ. كَمَا اتَّبَعُوا سَلَفَهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ بَلْ لَكَانُوا أَشَدَّ اتِّبَاعًا لَهُمْ. بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ مُوَافَقَةِ هِدَايَتِهِ لِهَذَا الزَّمَانِ كَغَيْرِهِ، وَكَوْنِهَا أَرْقَى مِنْ كُلِّ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْبَشَرُ مِنْ نِظَامٍ وَأَحْكَامٍ، وَهَذَا مِنْ أَجْلِ مُعْجِزَاتِهِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْأَزْمَانِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute