الْمَسِيحِ عِيدٌ لِلْمَائِدَةِ إِلَّا بِنَصٍّ عَنِ الْمَعْصُومِ أَوْ نَقْلٍ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ تَارِيخِهِمْ، وَسَيَأْتِي مَا عِنْدَ النَّصَارَى مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بَعِيدٍ لِيَوْمِ نُزُولِ الْمَائِدَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّازِيَّ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ مَا فِي قَوْلِ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ: إِنَّ النَّصَارَى لَا تَعْرِفُ خَبَرَ الْمَائِدَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِهِمُ الْمُقَدَّسِ عِنْدَهُمْ، نَعَمْ إِنَّ كِتَابَهُمْ أَوْ كُتُبَهُمْ لَيْسَ لَهَا أَسَانِيدُ مُتَّصِلَةٌ لَا بِالتَّوَاتُرِ وَلَا بِالْآحَادِ، وَلَكِنْ يُقَالُ مَعَ ذَلِكَ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ لِسَلَفِهِمْ عِيدٌ عَامٌّ لِلْمَائِدَةِ لَكَانَ مِنَ الشَّعَائِرِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعِيدِ اجْتِمَاعَ الْحَوَارِيِّينَ وَأَمْثَالِهِمْ لِصَلَاةٍ وَنَحْوِهَا كَمَا قِيلَ، فَإِنَّ هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَى لِإِخْفَائِهِمْ إِيَّاهُ فِي زَمَنِ الِاضْطِهَادِ، أَوْ بِأَنَّ الَّذِينَ أَظْهَرُوا النَّصْرَانِيَّةَ بَعْدَ اسْتِخْفَاءِ أَهْلِهَا بِالِاضْطِهَادِ لَا يَدْخُلُونَ عُمُومَ قَوْلِهِ: (وَآخِرِنَا) لِأَنَّهُمْ بَدَّلُوا وَهُوَ الَّذِي أَجَابَ بِهِ الرَّازِيُّ، أَوْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِيدِ الذِّكْرَى وَالْمَوْعِظَةُ لِمُؤْمِنِيهِمُ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْعِيدُ بِغَيْرِ اسْمِ الْمَائِدَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (تَكُونُ لَنَا عِيدًا) تَكُونُ طَعَامًا لِلْعِيدِ، وَهُوَ يُصَدَّقُ بِإِطْعَامِهِ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ مِنَ الْخُبْزِ وَالسَّمَكِ الْقَلِيلِ فِي عِيدِ الْفِصْحِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.
ثُمَّ إِنَّ كُتُبَ النَّصَارَى مِنَ الْأَنَاجِيلِ وَغَيْرِهَا قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا قَانُونِيٌّ وَهُوَ مَا أَقَرَّتْهُ الْكَنِيسَةُ وَاعْتَمَدَتْهُ، وَالثَّانِي غَيْرُ قَانُونِيٍّ وَهُوَ مَا رَفَضَتْهُ الْكَنِيسَةُ وَلَمْ تَعْتَمِدْهُ، وَمِنْهُ إِنْجِيلُ بِرْنَابَا الَّذِي صَرَّحَ فِيهِ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَالْبِشَارَةِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْجِيلِ الطُّفُولِيَّةِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ مَسْأَلَةَ جَعْلِهِ هَيْئَةً مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ نَفَخَ فِيهَا
فَطَارَتْ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي بَعْضِ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي رَفَضَتْهَا الْكَنِيسَةُ وَفُقِدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ يُوحَنَّا فِي إِنْجِيلِهِ بِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي عَمِلَهَا الْمَسِيحُ كَثِيرَةٌ لَوْ كُتِبَتْ كُلُّهَا لَا يَسَعُ الْعَالَمَ الْكُتُبُ الْمَكْتُوبَةُ، وَإِنَّنَا نَرَى بَعْضَ أَصْحَابِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ الْمُعْتَمَدَةِ كَتَبَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكْتُبْهُ الْآخَرُونَ.
وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ أَكْثَرَ كَلَامِ الْمَسِيحِ كَانَ أَمْثَالًا وَرُمُوزًا، وَيَعُدُّونَ مِنْ هَذِهِ الرُّمُوزِ كُلَّ مَا وَرَدَ مِنْ خَبَرِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الْمَلَكُوتِ، وَكَذَلِكَ بَعْضُ النُّصُوصِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الدُّنْيَا، فَمَا يُدْرِينَا أَنَّهُمْ أَشَارُوا إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ بِبَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ حَسَبَ فَهْمِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ، إِذْ كَانُوا يَنْقُلُونَ ذَلِكَ بِالْمَعْنَى ثُمَّ نُقِلَ عَنْهُمْ بِالتَّرْجَمَةِ، وَقَدْ فُقِدَتِ الْأُصُولُ وَلَا يُعْلَمُ عَنْهَا شَيْءٌ يَقِينِيٌّ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ بِالنُّقُولِ عَنْهُمْ.
وَأَنَا أَذْكُرُ هُنَا مَا فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ بِمَعْنَى قِصَّةِ الْمَائِدَةِ. جَاءَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ السَّادِسِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَهَبَ إِلَى بَحْرِ الْجَلِيلِ (بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ) وَتَبِعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ لِأَنَّهُمْ آيَاتُهُ، فَصَعِدَ إِلَى جَبَلٍ وَجَلَسَ هُنَاكَ مَعَ تَلَامِيذِهِ. وَهُمُ الْحَوَارِيُّونَ قَالَ يُوحَنَّا:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute