للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَفِيهِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالتَّسْوِيَةِ، وَهَذَا عَامٌّ لَهُ كَمَا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلِلتَّشْرِيعِيِّ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) الْآيَةَ انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ، وَفِيهِ كَلَامٌ آخَرُ فِيمَا يُلَابِسُ مَفْعُولَهُ مِنَ الظُّرُوفِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) (٥: ٩٧) أَنَّ الْجَعْلَ فِيهَا خَلْقٌ تَكْوِينِيٌّ وَأَمْرٌ شَرْعِيٌّ مَعًا. وَقَدْ بَيَّنَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ وُجُوهَ اسْتِعْمَالِ الْجَعْلِ فَكَانَتْ خَمْسَةً فَلْيُرَاجِعْهَا فِي مُفْرَدَاتِهِ مَنْ شَاءَ.

وَالظُّلْمَةُ الْحَالَّةُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا كُلُّ مَكَانٍ لَيْسَ فِيهِ نُورٌ، لَا عَدَمُ النُّورِ أَيْ فَقْدُهُ كَمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَعَ قَوْلِهِمْ إِنَّ الظُّلْمَةَ هِيَ الْأَصْلُ كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ الرَّاغِبُ: الظُّلْمَةُ عَدَمُ النُّورِ، وَقَالَ: النُّورُ الضَّوْءُ الْمُنْتَشِرُ الَّذِي يُعِينُ عَلَى الْإِبْصَارِ، وَقَالَ: الضَّوْءُ مَا انْتَشَرَ مِنَ الْأَجْسَامِ النَّيِّرَةِ، وَيُقَالُ: ضَاءَتِ النَّارُ وَأَضَاءَهَا غَيْرُهَا انْتَهَى. وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الضِّيَاءِ وَالنُّورِ بِمَا لَا مَحَلَّ لِذِكْرِهِ هُنَا. وَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنَ الْعَالَمِ أَظْهَرُ وَلَا أَغْنَى عَنِ التَّعْرِيفِ مِنَ الْمَظَاهِرِ الْحِسِّيَّةِ لِلرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. عَلَى أَنَّ بَيَانَ حَقِيقَتِهِ الْعِلْمِيَّةِ مِنْ أَعْسَرِ الْأُمُورِ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ الْخَفَاءُ مِنْ شِدَّةِ الظُّهُورِ، وَأَقْرَبُ مَا نُعَرِّفُهُ بِهِ لِلْجُمْهُورِ أَنْ نَقُولَ: هُوَ اشْتِعَالٌ يَحْدُثُ فِي أَجْسَامٍ لَطِيفَةٍ مُنْبَثَّةٍ فِي الْهَوَاءِ وَفِي الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ الَّتِي تَسْتَوْقِدُ بِهَا النَّارَ.

وَالنُّورُ قِسْمَانِ: حِسِّيٌّ صُورِيٌّ، وَهُوَ مَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ، وَمَعْنَوِيٌّ عَقْلِيٌّ أَوْ رُوحِيٌّ وَهُوَ مَا يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ، وَقَدْ أُطْلِقَتْ كَلِمَةُ النُّورِ فِي التَّنْزِيلِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَعَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَتَيِ النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ.

وَقَدْ أُفْرِدَ النُّورُ وَجُمِعَتِ الظُّلْمَةُ هُنَا وَفِي كُلِّ آيَةٍ قُوبِلَ فِيهَا بَيْنَ النُّورِ وَالظَّلَامِ سَوَاءٌ

كَانَ ذَلِكَ فِي الْحِسِّيِّ أَوِ الْمَعْنَوِيِّ، بَلْ لَمْ يُذْكَرِ النُّورُ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا مُفْرَدًا وَالظُّلْمَةُ إِلَّا جَمْعًا وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّ النُّورَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ مَصَادِرُهُ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ قَوِيًّا وَيَكُونُ ضَعِيفًا وَأَمَّا الظُّلْمَةُ فَهِيَ تَحْدُثُ بِمَا يَحْجُبُ النُّورَ مِنَ الْأَجْسَامِ غَيْرِ النَّيِّرَةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَذَلِكَ النُّورُ الْمَعْنَوِيُّ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ أَوْ جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ، وَيُقَابِلُ كُلًّا مِنْهُمَا ظُلُمَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَالْحَقُّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَالْبَاطِلُ الَّذِي يُقَابِلُهُ كَثِيرٌ، وَالْهُدَى وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَالضَّلَالُ الَّذِي يُقَابِلُهُ كَثِيرٌ، مِثَالُ ذَلِكَ تَوْحِيدُ اللهِ تَعَالَى وَمَا يُقَابِلُهُ مِنَ التَّعْطِيلِ وَالشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ بِأَنْوَاعِهِ، وَالشِّرْكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ بِأَنْوَاعِهِ وَفَضِيلَةُ الْعَدْلِ وَمَا يُقَابِلُهَا مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ.

وَقُدِّمَتِ الظُّلُمَاتُ فِي الذِّكْرِ عَلَى النُّورِ لِأَنَّ جِنْسَهَا مُقَدَّمٌ فِي الْوُجُودِ، فَقَدْ وُجِدَتْ مَادَّةُ الْكَوْنِ وَكَانَ دُخَانًا مُظْلِمًا أَوْ سَدِيمًا كَمَا يَقُولُ عُلَمَاءُ الْفَلَكِ ثُمَّ تَكَوَّنَتِ الشُّمُوسُ بِمَا حَدَثَ فِيهَا مِنَ الِاشْتِعَالِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرَكَةِ كَمَا يَقُولُونَ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ أَوْ يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>