للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ " إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلَقَ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ فَمَنْ أَصَابَهُ نُورُهُ اهْتَدَى وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا النُّورَ هُوَ الْمَعْنَوِيُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُشَبَّهٌ بِالنُّورِ الْحِسِّيِّ فِي تَكْوِينِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ " خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ " فَالظَّاهِرُ أَنَّ النُّورَ فِيهِ هُوَ الْحِسِّيُّ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ تُرَى الْمَلَائِكَةُ كَمَا يُرَى النُّورُ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَمَا خُلِقَ مِنْهُ أَصْلُهُ عَظِيمٌ كَمَا نَرَاهُ فِي أَنْفُسِنَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا مِنْ نُورٍ غَيْرَ هَذَا الَّذِي نَرَاهُ بِأَعْيُنِنَا.

وَسَبْقُ الظُّلُمَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِلنُّورِ الْمَعْنَوِيِّ أَظْهَرُ، فَإِنَّ نُورَ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ كَسْبِيٌّ فِي الْبَشَرِ وَمَا كَانَ غَيْرُ كَسْبِيٍّ فِي ذَاتِهِ كَالْوَحْيِ فَتَلَقِّيهِ كَسْبِيٌّ وَفَهْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ كَسْبِيَّانِ، وَظُلُمَاتُ الْجَهْلِ وَالْأَهْوَاءِ سَابِقَةٌ عَلَى هَذَا النُّورِ، فَالرَّسُولُ لَا يُولَدُ رَسُولًا وَإِنَّمَا يُؤْتَى الرِّسَالَةَ إِذَا بَلَغَ أَشَدَّهُ وَاسْتَوَى، وَالْعَالِمُ لَا يُولَدُ عَالِمًا، وَلَا الْفَاضِلُ فَاضِلًا " إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ " (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٦: ٧٨) .

وَقَدِ اخْتَلَفَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ هُنَا فَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ " قَالَ: الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ. وَأَخْرَجَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: " خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ قَبْلَ الْأَرْضِ وَالظُّلْمَةَ قَبْلَ النُّورِ وَالْجَنَّةَ قَبْلَ النَّارِ " إِلَخْ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الظُّلُمَاتُ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَالنُّورُ نُورُ النَّهَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الزَّنَادِقَةِ. قَالُوا: إِنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقِ الظُّلْمَةَ وَلَا الْخَنَافِسَ وَلَا الْعَقَارِبَ وَلَا شَيْئًا قَبِيحًا وَإِنَّمَا خَلَقَ النُّورَ وَكُلَّ شَيْءٍ حَسَنٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) رَدٌّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ اللهِ تَعَالَى وَقَوْلَهُ: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) رَدٌّ عَلَى الْمَجُوسِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الظُّلْمَةَ وَالنُّورَ هُمَا الْمُدَبِّرَانِ وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) رَدٌّ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَنْ دَعَا دُونَ اللهِ إِلَهًا.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلُمَاتِ هُنَا الظُّلُمَاتُ الْحِسِّيَّةُ وَبِالنُّورِ النُّورُ الْحِسِّيُّ، وَبَعْضَهُمْ قَالَ بِمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ، وَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ رَدٌّ عَلَى الْمَجُوسِ أَوِ الثَّنَوِيَّةِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ لِلْعَالَمِ رَبَّيْنِ، أَحَدُهُمَا النُّورُ وَهُوَ الْخَالِقُ لِلْخَيْرِ، وَالثَّانِي الظُّلْمَةُ وَهُوَ خَالِقُ الشَّرِّ. وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ إِرَادَةِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ مِنْ كُلٍّ مِنَ اللَّفْظَيْنِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْأَوَّلُ حَمَلَ اللَّفْظَيْنِ عَلَيْهِمَا وَاسْتَشْكَلَهُ الرَّازِيُّ ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا جَوَازُهُ وَجَوَازُ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ إِذَا احْتَمَلَ الْمَقَامُ

<<  <  ج: ص:  >  >>