للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ قِرَاءَةِ عِبَارَةِ الْجَلَالِ مَا مِثَالُهُ: خَاطَبَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا كَانَ لِآبَائِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِنْعَامَ عَلَى أُمَّةٍ بِعُنْوَانِ أَنَّهَا أُمَّةُ كَذَا، هُوَ إِنْعَامٌ شَامِلٌ لِلْأُمَّةِ مَنْ أَصَابَهُ ذَلِكَ الْإِنْعَامُ مِنْ أَفْرَادِهَا وَمَنْ لَمْ يُصِبْهُ، وَيَصِحُّ الِامْتِنَانُ بِهِ عَلَى اللَّاحِقِينَ مِنْهُمْ وَالسَّابِقِينَ، كَمَا يَصِحُّ الْفَخْرُ بِهِ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ، كَمَا أَنَّ الْإِنْعَامَ عَلَى شَخْصٍ بِشَيْءٍ يَخْتَصُّ بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ كَلَبُوسٍ يَلْبَسُهُ، أَوْ لَذِيذِ طَعَامٍ يَطْعَمُهُ، يَكُونُ إِنْعَامًا عَلَى الشَّخْصِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ إِنْعَامٌ عَلَى لِسَانِ فُلَانٍ وَلَا عَلَى رَأْسِهِ، أَوْ يَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ، وَلِأَنَّ مَا وَصَلَ إِلَى مُجْتَمَعٍ بِعُنْوَانِ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ وَالرَّابِطَةِ الَّتِي رَبَطَتْ أَفْرَادَهُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ فِي مَجْمُوعِ الْأَفْرَادِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَاصِلُ مِنْ نِقْمَةٍ أَوْ نِعْمَةٍ مُسَبِّبًا عَنْ عَمَلِ الْأُمَّةِ شَرًّا أَوْ خَيْرًا، وَيَكُونُ لِذَلِكَ أَثَرٌ فِي الْأُمَّةِ يُورِثُهُ السَّلَفُ الْخَلَفَ مَا بَقِيَتِ الْأُمَّةُ، وَأَنْوَاعُ الْبَلَاءِ الَّتِي ذَكَّرَهَا بِهَا الْيَهُودَ فِي الْقُرْآنِ كَانَتْ لِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ؛ لِأَنَّ الْجَرَائِمَ الَّتِي كَانَ الْبَلَاءُ عُقُوبَةً عَلَيْهَا إِنَّمَا كَانَتْ مِنْ مَجْمُوعِ الشَّعْبِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَانَ يَتُوبُ عَلَى الشَّعْبِ بَعْدَ كُلِّ بَلَاءٍ وَيُفِيضُ عَلَيْهِ النِّعَمَ؛ فَتَكُونُ الْعُقُوبَةُ تَرْبِيَةً وَتَعْلِيمًا تُفِيدُ الْمُعْتَبِرِينَ بِهَا نِعْمَةً وَسَعَادَةً.

لَا أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْخِطَابَ إِيمَاءٌ أَوْ إِشَارَةٌ لِلْمُخَاطَبِينَ بِأَنْ يَسْتَحْضِرُوا تَارِيخَ أُمَّتِهِمُ الْمَاضِيَ لِيَتَذَكَّرُوا صُنْعَ اللهِ - تَعَالَى - فِيهِمْ فَيُعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَهُمْ مِنْ نَعْمَاءَ وَضَرَّاءَ، وَسَعَادَةٍ وَشَقَاءٍ، وَيَتَفَكَّرُوا فِيمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَمَا يُنْتَظَرُ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ، وَإِنَّمَا

الْكَلَامُ نَصٌّ صَرِيحٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ؛ فَالرَّوَابِطُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَمِ وَجَمَاعَاتِهَا كَالرَّوَابِطِ الْحَيَوِيَّةِ بَيْنَ أَعْضَاءِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ بِلَا فَرْقٍ. تَعَثَرُ الرِّجْلُ فَتُخْدَشُ أَوْ تُوثَأُ، وَالْأَلَمُ يُلِمُّ بِالشَّخْصِ كُلِّهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَخْصٌ حَيٌّ بِحَيَاةٍ وَاحِدَةٍ تَسْتَوِي فِيهَا رِجْلُهُ وَسَائِرُ أَعْضَائِهِ؛ وَلِذَلِكَ يَسْعَى بِجُمْلَتِهِ لِإِزَالَةِ أَلَمِ الرِّجْلِ، وَيَتَوَقَّى أَسْبَابَ الْعِثَارِ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْتَعِينًا بِكُلِّ أَعْضَائِهِ وَقُوَاهُ.

عَلَّمَنَا اللهُ - تَعَالَى - هَذَا بِمَا قَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ، وَأَنْعَمَ عَلَى أُمَّتِنَا - الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِشَعْبٍ وَلَا جِنْسٍ - بِهَذَا الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَكَانَ لَهُمْ بِهِ نِعَمٌ لَا تُحْصَى تُعْرَفُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فَأَصْبَحُوا بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ فَمَكَّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَ الشُّعُوبِ الْقَوِيَّةِ وَدِيَارَهَمْ وَجَعَلَ لَهُمُ السُّلْطَانَ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُ جَعَلَهُمْ أُمَّةً وَسَطًا لَا تَفْرِيطَ عِنْدَهَا وَلَا إِفْرَاطَ؛ لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ غَلَوْا وَأَفْرَطُوا، وَالَّذِينَ قَصَّرُوا وَفَرَّطُوا، ثُمَّ لَمَّا كَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ أَنْزَلَ بِهَا أَلْوَانًا مِنَ الْبَلَاءِ وَالنِّقَمِ بِعُنْوَانِ الْأُمَّةِ. فَإِنَّ التَّتَارَ إِنَّمَا نَكَّلُوا بِهَا وَتَبَّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا؛ لِأَنَّهَا الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، ثُمَّ زَحَفَ عَلَيْهَا الْغَرْبِيُّونَ أَيَّامَ حُرُوبِ الصَّلِيبِ وَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ؛ لِأَنَّهَا الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ،

<<  <  ج: ص:  >  >>