للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثُمَّ إِنَّ الْفِتَنَ لَا تَزَالُ تَحُلُّ بِدِيَارِهِمْ، وَتُنْقِصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، وَسَوْطَ عَذَابِ اللهِ يُصَبُّ عَلَيْهَا بِعُنْوَانِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَقَدْ مَرَّتْ عَلَيْهَا قُرُونٌ وَهِيَ لَا تَعْتَبِرُ بِمَا مَضَى، وَلَا تَتَرَبَّى بِمَا حَضَرَ، بَلْ جَهِلَتِ الْمَاضِيَ فَحَارَتْ فِي الْحَاضِرِ، لَا تَعْرِفُ سَبَبَهُ وَلَا الْمَخْرَجَ مِنْهُ.

أَلَيْسَ مِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ الْجُمْهُورَ الْأَعْظَمَ مِنَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنْهَا هُمْ أَجْهَلُهَا بِتَارِيخِهَا، لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ مَاضِيهَا وَلَا حَاضِرِهَا؟ وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْأُمَّةَ فِي بَلَاءٍ كَبِيرٍ، وَيَعْتَذِرُونَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ، وَيَكِلُونَ إِلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ النَّجَاةَ مِنْهُ أَوِ الْبَقَاءَ فِيهِ.

إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ دِيَارُهَا وَتَعَدَّدَتْ أَجْنَاسُهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَعْرِفَ حَقِيقَتَهَا إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ تَارِيخِهَا الْمَاضِي، فَلَا بُدَّ مِنْ تَتَبُّعِ السَّوَاقِي وَالْجَدَاوِلِ إِلَى الْيَنْبُوعِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ.

كَانَ سَلَفُنَا - رَضِيَ اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ - يَضْبِطُونَ أَحْوَالَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا

بِكُلِّ اعْتِنَاءٍ وَدِقَّةٍ، حَتَّى كَانُوا يَرْوُونَ الْبَيْتَ مِنَ الشِّعْرِ أَوِ النُّكْتَةَ بَيْنَ الْعَاشِقِ وَمَعْشُوقَتِهِ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمُبَالَغَةُ مِمَّا يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ إِنَّمَا تَكُونُ أُمَّةً بِدِينِهَا وَلُغَتِهَا وَأَخْلَاقِهَا وَعَادَاتِهَا، فَإِذَا لَمْ يَحْفَظْ خَلَفُهَا عَنْ سَلَفِهَا هَذِهِ الْمُقَوِّمَاتِ بِحِفْظِ تَارِيخِهَا، تَكُونُ عُرْضَةً لِلتَّغَيُّرِ بِتَأْثِيرِ حَوَادِثِ الزَّمَانِ، وَتَقَلُّبَاتِ شُئُونِ الِاجْتِمَاعِ مَعَ جَهْلِ الْمُتَأَخِّرِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ، وَبِكَيْفِيَّةِ حُدُوثِ التَّغْيِيرِ الضَّارِّ لِلْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ، بِهَذَا تَفْعَلُ فَوَاعِلُ الْكَوْنِ بِالْأُمَّةِ الْجَاهِلَةِ أَفَاعِيلَهَا حَتَّى تَقْلِبَ كِيَانَهَا، وَتُقَوِّضَ بُنْيَانَهَا، وَتَقْطَعَ عُرَى الرُّبُطِ الْعَامَّةِ بَيْنَ أَفْرَادِهَا، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ عَمَلٌ إِلَّا لِلْمَصْلَحَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَهِيَ لَا حِفَاظَ لَهَا فِي مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، فَإِذَا أَهْمَلَتْ تَكُونُ الْأُمَّةُ مِنَ الْهَالِكِينَ.

عُنِيَتْ أُمَّتُنَا بِالتَّارِيخِ عِنَايَةً لَمْ تَسْبِقْهَا بِهِ أُمَّةٌ، فَلَمْ تَكْتَفِ بِضَبْطِ الْوَقَائِعِ وَتُلْقِيهَا بِالرِّوَايَةِ كَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، بَلْ تَفَنَّنَتْ فِيهَا فَصَنَّفَتْ فِي تَارِيخِ الْأَشْخَاصِ كَمَا صَنَّفَتْ فِي تَارِيخِ الْبِلَادِ وَالشُّعُوبِ، ثُمَّ نَوَّعَتْ تَارِيخَ الْأَشْخَاصِ فَجَعَلَتْ لِكُلِّ طَبَقَةٍ تَارِيخًا، فَنَرَى فِي الْمَكَاتِبِ طَبَقَاتِ الْمُفَسِّرِينَ، وَطَبَقَاتِ الْمُحَدِّثِينَ، وَطَبَقَاتِ النَّحْوِيِّينَ، وَطَبَقَاتِ الْأَطِبَّاءِ، وَطَبَقَاتِ الشُّعَرَاءِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

ثُمَّ اهْتَدَى بَعْضُهُمْ إِلَى اسْتِنْبَاطِ قَوَاعِدِ الْعُمْرَانِ وَأُصُولِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ التَّارِيخِ فَصَنَّفَ ابْنُ خَلْدُونَ فِي ذَلِكَ مُقَدِّمَةَ تَارِيخِهِ، وَلَوْ لَمْ تَنْقَطِعْ بِنَا سِلْسِلَةُ الْعِلْمِ مِنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ لَكُنَّا أَتْمَمْنَا مَا بَدَأَ بِهِ سَلَفُنَا، وَلَكِنَّنَا تَرَكْنَاهُ وَسَبَقَنَا غَيْرُنَا إِلَى إِتْمَامِهِ وَاسْتِثْمَارِهِ؛ فَالتَّارِيخُ هُوَ الْمُرْشِدُ الْأَكْبَرُ لِلْأُمَمِ الْعَزِيزَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>