للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْيَوْمَ إِلَى مَا هِيَ فِيهِ مِنْ سَعَةِ الْعُمْرَانِ وَعِزَّةِ السُّلْطَانِ، وَكَانَ الْقُرْآنُ هُوَ الْمُرْشِدُ الْأَوَّلُ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى الْعِنَايَةِ بِالتَّارِيخِ وَمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ فِي الْأُمَمِ مِنْهُ، وَكَانَ الِاعْتِقَادُ بِوُجُوبِ حِفْظِ السُّنَّةِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ هُوَ الْمُرْشِدُ الثَّانِي إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا صَارَ الدِّينُ يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أُهْمِلَ التَّارِيخُ، بَلْ صَارَ مَمْقُوتًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُشْتَغِلِينَ بِعِلْمِ الدِّينِ، فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَّبِعًا فِي ذَلِكَ سُنَّةَ قَوْمٍ آخَرِينَ.

نَكْتَفِي الْآنَ بِهَذَا التَّنْبِيهِ وَنَعُودُ إِلَى إِتْمَامِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي صَرَفَتْنَا إِلَيْهِ بِمُخَاطَبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ بِمَا كَانَ مِنْ تَعْذِيبِ آلِ فِرْعَوْنَ لِسَلَفِهِمْ، وَإِنْعَامِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِالْإِنْجَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ.

أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ مِصْرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِخْوَتُهُ وَنَمَا نَسْلُهُ وَنَسْلُهُمْ فِيهَا وَكَثُرَ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ، وَهَذَا النُّمُوُّ كَانَ فِي مُدَّةِ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ لَا يُحِبُّونَ مُسَاكَنَةَ الْغُرَبَاءِ، فَلَمَّا رَأَى فِرْعَوْنُ نُمُوَّ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ خَافَ مَغَبَّةَ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ إِذَا كَثُرُوا يَتَبَسَّطُونَ فِي الْأَرْضِ وَيُزَاحِمُونَ الْمِصْرِيِّينَ، فَطَفِقَ يَسْتَذِلُّهُمْ وَيُكَلِّفُهُمُ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ، كَصُنْعِ الطُّوبِ لِبِنَاءِ الْهَيَاكِلِ وَالْبَرَابِي لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الذُّلَّ يُقَلِّلُ النَّسْلَ وَيُفْضِي بِالْأُمَّةِ إِلَى الِانْقِرَاضِ، وَلَكِنَّهُمْ ظَلُّوا مَعَ الِاسْتِذْلَالِ يَتَنَاسَلُونَ وَيَكْثُرُونَ. فَلَمَّا رَآهُمُ الْحُكَّامُ الْمِصْرِيُّونَ يَزْدَادُونَ نَسْلًا، وَأَنَّهُمْ مَعَ هَذَا مُحَافِظُونَ عَلَى عَادَاتِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ، وَلَا يُمَازِجُونَ الْمِصْرِيِّينَ، وَعِنْدَهُمُ الْأَثَرَةُ وَالْإِبَاءُ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ وَأَفْضَلُ خَلْقِهِ، خَافُوا أَنْ يَقْوَوْا بِالْكَثْرَةِ فَيَعْدُوا عَلَيْهِمْ وَيَغْلِبُوهُمْ عَلَى بِلَادِهِمْ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَإِنَّمَا كَانُوا يَزْدَادُونَ عَلَى الذُّلِّ نَسْلًا؛ لِأَنَّ الذُّلَّ لَا يُؤَثِّرُ إِلَّا فِي الزَّمَنِ الطَّوِيلِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الذَّلِيلَ الَّذِي لَا تُطْلَقُ إِرَادَتُهُ فِي أَعْمَالِهِ هُوَ

بِمَنْزِلَةِ الشَّخْصِ الَّذِي يَضْعُفُ عَنْ تَنَاوُلِ الْغِذَاءِ الَّذِي يَمُدُّ حَيَاتَهُ، فَهُوَ يَذْبُلُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَنْحَلَ وَيَمُوتَ، وَالْقُوَّةُ الْمَعْنَوِيَّةُ الَّتِي تَحْفَظُ حَيَاةَ الْأُمَمِ هِيَ قُوَّةُ الْأَرْوَاحِ وَالْإِرَادَاتِ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ مَحْمُولٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>