مِمَّا تَصِلُ إِلَيْهِ قُدْرَتُهُ لَظَهَرَ عَلَى لِسَانِهِ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِهِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ فِيمَا مَضَى مِنْ حَيَاتِهِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَنَيِّفٌ وَقَدْ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْحُجَّةَ بِقَوْلِهِ: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (١٠: ١٦) وَمَا كَانَ كُفْرُ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ إِلَّا عَنْ كِبْرٍ وَعِنَادٍ وَمُكَابَرَةٍ لِلْحَقِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُعْرِضُ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ خَشْيَةَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي قَلْبِهِ، وَيَنْزِعَهُ مِنَ الدِّينِ الَّذِي أَلِفَهُ طُولَ عُمُرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُصْغِي سَمْعُهُ إِلَى الْقُرْآنِ بِقَصْدِ الِاكْتِشَافِ وَالِاخْتِبَارِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَعْقِلُ الْمُرَادَ مِنْهُ وَلَا يَفْقَهُ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ، إِمَّا لِعَدَمِ تَوَجُّهِ ذِهْنِهِ إِلَى ذَلِكَ لِعَرَاقَتِهِ فِي التَّقْلِيدِ وَالْأُنْسِ بِمَا دَرَجَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَإِمَّا لِلْبَلَادَةِ وَانْحِطَاطِ الْكُفْرِ عَنِ التَّسَامِي إِلَى هَذِهِ الْمَعَارِفِ الْعَالِيَةِ فِيهِ، وَكَانَ هَذَا قَلِيلًا فِي الْعَرَبِ وَلَا سِيَّمَا أَهْلُ مَكَّةَ وَهُمْ أَفْصَحُ قُرَيْشٍ الَّتِي هِيَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى حَالَ هَذَا الْفَرِيقِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ حَظُّهُ مِنَ الِاسْتِمَاعِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا كَحَظِّ النَّعَمِ مِنْ سَمَاعِ أَصْوَاتِ الْبَشَرِ فَقَالَ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) أَيُّهَا الرَّسُولُ إِذَا تَلَوْتَ الْقُرْآنَ دَاعِيًا إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ مُنْذِرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) أَيْ وَجَعَلْنَا عَلَى آلَةِ الْفَهْمِ وَالْإِدْرَاكِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهِيَ قَلْبُ الْإِنْسَانِ وَلُبِّهِ أَغْطِيَةً حَائِلَةً دُونَ فِقْهِهِ وَنُفُوذِ الْأَفْهَامِ إِلَى أَعْمَاقِ عَمَلِهِ، وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا أَيْ ثِقَلًا أَوْ صَمَمًا حَائِلًا دُونَ سَمَاعِهِ بِقَصْدِ التَّدَبُّرِ وَاسْتِبَانَةِ الْحَقِّ. وَمَعْنَى هَذَا الْجَعْلِ مَا مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ مِنْ كَوْنِ التَّقْلِيدِ الَّذِي يَخْتَارُهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ يَكُونُ مَانِعًا لَهُ بِاخْتِيَارِهِ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْبَحْثِ عَنِ الْحَقَائِقِ، فَهُوَ لَا يَسْتَمِعُ إِلَى مُتَكَلِّمٍ وَلَا دَاعٍ لِأَجْلِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَإِذَا وَصَلَ إِلَى سَمْعِهِ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِمَا هُوَ دِينٌ لَهُ أَوْ عَادَةٌ لَا يَتَدَبَّرُهُ وَلَا يَرَاهُ جَدِيرًا بِأَنْ يَكُونَ مَوْضُوعَ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّنْظِيرِ مَعَ مَا عِنْدَهُ مِنْ عَقِيدَةٍ أَوْ رَأْيٍ أَوْ عَادَةٍ، وَجَعْلُ الْأَكِنَّةِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْوَقْرِ فِي الْآذَانِ فِي الْآيَةِ مِنْ تَشْبِيهِ الْحُجُبِ وَالْمَوَانِعِ الْمَعْنَوِيَّةِ، بِالْحُجُبِ وَالْمَوَانِعِ الْحِسِّيَّةِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ الَّذِي لَا يَفْقَهُ الْحَدِيثَ وَلَا يَتَدَبَّرُهُ كَالْوِعَاءِ الَّذِي وُضِعَ عَلَيْهِ الْكِنُّ أَوِ الْكِنَانُ وَهُوَ الْغِطَاءُ حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِيهِ شَيْءٌ، وَالْآذَانُ الَّتِي لَا تَسْمَعُ الْكَلَامَ سَمَاعَ فَهْمٍ وَتَدَبُّرٍ كَالْآذَانِ
الْمُصَابَةِ بِالثِّقَلِ أَوِ الصَّمَمِ لِأَنَّ سَمْعَهَا وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ، وَالْأَكِنَّةُ جَمْعُ كِنَانٍ كَالْأَسِنَّةِ جَمْعُ سِنَانٍ، وَالْوَقْرُ بِالْفَتْحِ الثِّقَلُ فِي السَّمْعِ وَالصَّمَمُ وَبِالْكَسْرِ الْحَمْلُ، يُقَالُ: وَقَرَ سَمْعُهُ يَقَرُ فَهُوَ مَوْقُورٌ، إِذَا كَانَ لَا يَسْمَعُ، وَأَوْقَرَ الدَّابَّةَ فَهِيَ مُوَقَّرَةٌ.
(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ مَا يَتْلُو عَلَيْهِمُ الرَّسُولُ سَمَاعَ تَدَبُّرٍ وَلَا يَفْقَهُونَ كُنْهَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ نُبُّوَتِكَ وَصِدْقِ دَعْوَتِكَ وَحَقِيقَةِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَهَا وَلَا يُدْرِكُونَ كُنْهَ الْمُرَادِ مِنْهَا، لِعَدَمِ التَّوَجُّهِ أَوْ لِوُقُوفِ أَسْمَاعِهِمْ عِنْدَ ظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute