للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ) أَيْ حَتَّى إِذْ صَارُوا إِلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُجَادِلِينَ لَكَ فِي دَعْوَتِكَ (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أَيْ يَقُولُونَ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَانْتِقَاءِ فِقْهِهِمْ: مَا هَذَا الْقُرْآنُ إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْأُمَمِ، أَيْ قِصَصُهُمْ وَخُرَافَاتُهُمْ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ مِمَّا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ فِي قَصَصِ الْأُمَمِ مَعَ رُسُلِهِمْ إِلَّا أَنَّهَا حِكَايَاتٌ وَخُرَافَاتٌ تُسَطَّرُ وَتُكْتُبُ كَغَيْرِهَا، فَلَا عِلْمَ فِيهَا وَلَا فَائِدَةَ مِنْهَا، وَرُبَّمَا جَعَلُوا الْقُرْآنَ كُلَّهُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قِيَاسًا لِمَا لَمْ يَسْمَعُوا عَلَى مَا سَمِعُوا، أَوْ لِغَيْرِ الْقَصَصِ عَلَى الْقَصَصِ. وَهَكَذَا شَأْنُ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى الشَّيْءِ نَظَرًا سَطْحِيًّا لَا لِيَسْتَنْبِطَ مِنْهُ عِلْمًا وَلَا بُرْهَانًا، وَمَنْ يَسْمَعُ الْكَلَامَ جَرْسًا لَفْظِيًّا لَا يَتَدَبَّرُهُ وَلَا يَفْقَهُ أَسْرَارَهُ، فَمَثَلُ هَذَا وَذَاكَ كَمَثَلِ الطِّفْلِ الَّذِي يُشَاهِدُ أَلْعَابَ الصُّوَرِ الْمُتَحَرِّكَةِ يُدِيرُهَا قَوْمٌ لَا يَعْرِفُ لُغَتَهُمْ، فَكُلٌّ حَظُّهِ مِمَّا يَرَى مِنَ الْمَنَاظِرِ وَمِنَ الْمَكْتُوبَاتِ الْمُفَسِّرَةِ لَهَا لَا يَعْدُو التَّسْلِيَةَ. وَلَوْ عَقَلَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدُونَ الْغَافِلُونَ قَصَصَ الْقُرْآنِ وَتَدَبَّرُوا مَعَانِيَهَا لَكَانَ لَهُمْ مِنْهَا آيَاتٌ بَيِّنَةٌ عَلَى صِدْقِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُذُرٌ عَظِيمَةٌ مِمَّا فِيهَا مِنْ بَيَانِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ، وَعَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ مَعَ الرُّسُلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْعِبَرِ.

وَإِنَّ فِي أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ مَنْ لَا يَكْفُرُ فِي إِتْيَانِ الْأُمِّيِّ النَّاشِئِ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ بِخُلَاصَةِ أَخْبَارِ أَشْهَرِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ لِأَنَّهُ يَرَى أَوْ يَسْمَعُ أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ يُشْبِهُ مَا فِي غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكُتُبِ التَّارِيخِ، وَلَا يَرَى فِي هَذَا مَا يَبْعَثُهُ إِلَى الْبَحْثِ فِي الْفُرُوقِ بَيْنَ مَا فِي الْقُرْآنِ وَمَا فِي غَيْرِهِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي بَحْثِ الْإِعْجَازِ [رَاجِعْ ص ١٦٩ ١٨١ ج ١ ط الْهَيْئَةِ] وَأَهَمُّهَا فِي بَابِ إِثْبَاتِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوْنُهُ

ظَهَرَ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ أُمِّيٍّ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الدِّينِ وَلَا كُتُبِ التَّارِيخِ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا عَلَى قَوْمِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِمَّنِ انْتَصَبُوا لِعَدَاوَتِهِ أَنْ يَرْفَعَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ رَأْسًا أَوْ يَنْبِسَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ بِكَلِمَةٍ: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) (١١: ٤٩) .

فَإِذَا كَانَ فِي أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ مَنْ لَا يُفَكِّرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ خَاصَّةٌ بِقَصَصِ الْقُرْآنِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ السَّبَبِ، وَمَنْ لَا يُفَكِّرُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ بَعْدَ أَنْ عَاشَ النَّبِيُّ ثُلْثَيْ عُمُرِهِ قَبْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي كَلَامِهِ مَا هُوَ مُعْجِزٌ، فَإِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَ كَوْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أُمِّيًّا مِثْلَهُمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَلَا كَانَ مُمْتَازًا بِالْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ فِيهِمْ، وَلَكِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَجْهَلُ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ مِنْ كَوْنِ تِلْكَ الْقَصَصِ كَانَتْ صَحِيحَةً لَا مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ وَأَوْضَاعِهِمُ الْخُرَافِيَّةِ الَّتِي لَا يَثْبُتُ لَهَا أَصْلٌ وَلِأَجْلِ هَذَا سَأَلَ بَعْضُهُمُ الْيَهُودَ عَنْهَا. كَمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَجْهَلُ مَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ لِعَدَمِ تَدَبُّرِهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى:

<<  <  ج: ص:  >  >>