للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِهِ، وَيَعْرِفُ بِهِ الْخَيْرَ وَيَعْمَلُ بِهِ بِحَسَبِ سُنَنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الِارْتِبَاطِ بَيْنَ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْعَقَائِدِ وَالْوِجْدَانَاتِ النَّفْسِيَّةِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَخْلُقَ لَهُ الْهِدَايَةَ خَلْقًا كَمَا خَلَقَ رُوحَهُ وَبَدَنَهُ، وَلَا أَنَّهُ يُجْبِرُهُ عَلَيْهَا فَيُلْصِقُ بِهِ كَارِهًا غَيْرَ مُخْتَارٍ، وَفِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَشِيئَةَ الْإِضْلَالِ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِأَصْحَابِ الْأَعْمَالِ الْكَسْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ الضَّلَالُ أَوْ سَبَبُ الضَّلَالِ، وَمَشِيئَةُ الْهِدَايَةِ تَتَعَلَّقُ بِمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ.

قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَعْقِلُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ٧: ١٧٩) وَقَالَ تَعَالَى: (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ ١٤: ٢٧) وَقَالَ: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ٢: ٢٦) كَمَا قَالَ: (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ٥: ١٦) فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَاتِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِفِطَرِ الْبَشَرِ وَعُقُولِهِمْ وَإِنْ خَالَفَ بَعْضَ نَظَرِيَّاتِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ، فَلَيْسَ الْإِنْسَانُ خَالِقًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ، مُسْتَقِلًّا بِهَا دُونَ مَشِيئَةِ خَالِقِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الرَّبُّ مَا يَصْدُرُ عَنِ النَّاسِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ قَبِيلِ مَا خَلَقَهُ لَهُمْ مِنْ حَرَكَاتِ دِمَائِهِمْ فِي أَبْدَانِهِمْ وَأَعْمَالِ مَعِدِهِمْ وَأَمْعَائِهِمْ، وَلَا مِنْ قَبِيلِ حَرَكَاتِ الْمُرْتَعِشِ مِنْهُمْ، فَلَا نَغْلُو فِي التَّنْزِيهِ وَالْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ غُلُوًّا نَجْعَلُ بِهِ ضَلَالَ مَنْ ضَلَّ وَاقَعًا بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى مُقَدِّرِ الْمَقَادِيرِ، وَوَاضِعِ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ فِي الْخَلْقِ كُلِّهِ، وَلَا نَغْلُو فِي الْمَشِيئَةِ فَنَجْعَلَهَا مُنَافِيَةً لِلْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ سَالِبَةً لِمَا عُلِمَ مِنْ فِطْرَةِ اللهِ بِالضَّرُورَةِ.

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْآيَةَ فِي بَيَانِ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ الْكَافِرُونَ وَالْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا ١٧: ٩٧) قَالَ: وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِضْلَالِ إِضْلَالُهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ جَزَاءً لَهُمْ، وَيُقَابِلُهُ جَعْلُ الْمُتَّقِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُوصِّلٍ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ وُرُودُ الْآيَةِ فِي وَصْفِ

حَالِ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللهِ فِي سِيَاقِ إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِلْآخِرَةِ وَلَا هِيَ وَارِدَةٌ فِي سِيَاقِ الْجَزَاءِ، وَإِسْنَادُ الْإِضْلَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى لَا يَقْتَضِي إِخْرَاجَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا، فَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.

وَمِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ) فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْبَقَرَةِ ": (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ٢: ١٨، ١٧١) فَلِمَاذَا سُرِدَتِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ

<<  <  ج: ص:  >  >>