فِي الْبَقَرَةِ مَفْصُولَةً وَوُصِلَتْ كُلُّهَا بِالْعَطْفِ فِي آيَةِ الْإِسْرَاءِ (١٧: ٩٧) الَّتِي ذُكِرَتْ آنِفًا، وَعَطْفُ الثَّانِيَةَ عَلَى الْأُولَى هُنَا دُونَ قَوْلِهِ: (فِي الظُّلُمَاتِ) الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الثَّالِثَةِ؟ لَمْ أَرَ لِأَحَدٍ كَلَامًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَلَكِنْ ذَكَرَ فِي " رُوحِ الْمَعَانِي " أَنَّ الْعَطْفَ بَيْنَ الصُّمِّ وَالْبُكْمِ لِتَلَازُمِهِمَا، وَتَرْكَهُ فِيمَا بَعْدَهُمَا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ كَافٍ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي الْمُقَابَلَةِ أَنَّ تَرْكَ الْعَطْفِ فِي آيَتَيِ الْبَقَرَةِ لِبَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَاصِقَةٌ بِالْمَوْصُوفِينَ بِهَا مُجْتَمِعَةٌ فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَالْأُولَى مِنْهُمَا فِي الْمَخْتُومِ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْمَيْئُوسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَالثَّانِيَةُ فِي الْمُقَلِّدِينِ الْجَامِدِينِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَسْتَمِعُ لِدَعْوَةِ الْحَقِّ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَلَا يَسْأَلُ الرَّسُولَ وَلَا غَيْرَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا يَحُوكُ فِي قَلْبِهِ وَيَجُولُ فِي ذِهْنِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالشَّكِّ، وَلَا يَنْطِقُ بِمَا عَسَاهُ يَعْرِفُ مِنَ الْحَقِّ، وَلَا يَسْتَدِلُّ بِآيَاتِ اللهِ الْمَرْئِيَّةِ فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي الْآفَاقِ، فَكَأَنَّهُ أَصَمُّ أَبْكَمُ أَعْمَى فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا فَهِيَ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَلَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مِنَ الْمَخْتُومِ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْمَيْئُوسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَلَا مِنَ الْمُقَلِّدِينَ الْجَامِدِينَ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُونَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ وَالْمُكَوَّنَةِ، بَلْ كَانَ مِنْهُمُ الْجَامِدُ عَلَى التَّقْلِيدِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ حَتَّى كَأَنَّهُ أَصَمُّ (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا ٣١: ٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْمَعُ وَيَعْلَمُ أَنَّهَا الْحَقُّ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْطِقُ بِمَا يَعْلَمُ عِنَادًا، فَهَذَانِ فَرِيقَانِ مُنْفَصِلَانِ، عَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِبَيَانِ هَذَا الِانْفِصَالِ. وَقَوْلُهُ: (فِي الظُّلُمَاتِ) إِمَّا حَالٌ مِنْهُمَا لِبَيَانِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خَابِطٌ فِي الظُّلُمَاتِ الْمُشْتَرِكَةِ كَظُلْمَتَيِ الشِّرْكِ وَالْجَهْلِ، أَوِ الْخَاصَّةِ بِفَرِيقٍ دُونَ آخَرَ كَظُلْمَتَيِ التَّقْلِيدِ وَالْكِبْرِ، فَبَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ غَيْرُ مُسْتَكْبِرِينَ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ، وَبَعْضُ الْمُسْتَكْبِرِينَ غَيْرُ جَامِدَيْنِ عَلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ، وَإِمَّا صِفَةٌ لِبُكْمٍ فَيَكُونُ الْمُكَذِّبُونَ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ قِسْمَيْنِ
كُلٌّ مِنْهُمَا فَرِيقَانِ (الْأَوَّلُ) الَّذِينَ شُبِّهُوا بِالصُّمِّ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ مُطْلَقًا اسْتِغْنَاءً عَنْ هِدَايَتِهِ بِضَلَالِهِمْ وَمُشَاغَبَةً لِلدَّاعِي إِلَيْهِ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغُوَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ٤١: ٢٦) وَالَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ سَمَاعَ فَهْمٍ وَتَأَمُّلٍ، لِتَوَهُّمِهِمْ عَدَمَ الْحَاجَةِ إِلَى دِينٍ غَيْرِ دِينِ آبَائِهِمْ، أَوْ لِأَنَّ رُؤَسَاءَهُمْ يَنْهَوْنَهُمْ وَيَصُدُّونَهُمْ عَنْهُ، وَلَمْ يُوصَفْ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ - عَلَى هَذَا الْوَجْهِ - لِأَنَّ سَمَاعَهُمْ مَرْجُوٌّ وَهِدَايَتَهُمْ مَأْمُولَةٌ عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ. (الثَّانِي) الَّذِينَ شُبِّهُوا بِالْبُكْمِ وَهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَاسْتَيْقَنُوا صِدْقَ الرَّسُولِ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ، وَلَكِنَّهُمْ يَكْتُمُونَهَا أَوْ يَجْحَدُونَ بِهَا كِبْرًا وَعِنَادًا لَا تَكْذِيبًا لَهُ وَلَا إِكْذَابًا، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute