فِي الْآيَةِ (٣٩) ، وَالَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَسْأَلُوا وَلَمْ يَبْحَثُوا فَهُمْ كَالْبُكْمِ لِعَدَمِ اسْتِفَادَتِهِمْ مِنَ الْكَلَامِ. وَوَصَفَ هَذَا الْفَرِيقِ مِنَ الْبُكْمِ - وَهُمُ الْجَاهِلُونَ - بِأَنَّهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ لِأَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ فِي دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْمَرْئِيَّةِ، وَوَصَفَ بِذَلِكَ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ أَيْضًا - وَهُمُ الْمُسْتَكْبِرُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا تُؤَثِّرُ فِي قُلُوبِهِمْ رُؤْيَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصِفَاتُهُ الْقُدْسِيَّةُ، وَقَدْ كَانَتْ شَمَائِلُهُ الشَّرِيفَةُ الْمَرْضِيَّةُ وَرُوحَانِيَّتُهُ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنَ الْكَهْرَبَائِيَّةِ تُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ الْمُسْتَعِدَّةِ فَتَجْذِبُهَا إِلَى الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى إِقَامَةِ حَجَّةٍ وَلَا تَأْلِيفِ بُرْهَانٍ، وَقَدْ كَانَ يَجِيئُهُ الْأَعْرَابِيُّ السَّلِيمُ الْفِطْرَةُ مُمْتَحِنًا أَوْ مُعَادِيًا، فَإِذَا رَآهُ آمَنَ وَقَالَ: مَا هَذَا وَجْهُ كَذَّابٍ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَأَخَذَتْهُ رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ مَهَابَتِهِ، فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ وَلَا جَبَّارٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ بِمَكَّةَ " فَنَطَقَ الرَّجُلُ بِحَاجَتِهِ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.
وَمِنَ الشَّوَاهِدِ الْمُؤَيِّدَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّقْسِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " سُورَةِ يُونُسَ ": (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ١٠: ٤٢، ٤٣) وَأَمَّا آيَةُ الْإِسْرَاءِ فَلَا يَظْهَرُ فِيهَا هَذَا التَّقْسِيمُ وَلَا مَعْنَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَتَا الْبَقَرَةِ مِنْ إِرَادَةِ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ الْحَائِلَةِ دُونَ جَمِيعِ طُرُقِ الْهِدَايَةِ، وَإِنَّمَا تُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْعِلَلَ تَعْرِضُ لَهُمْ فِي حَالَاتٍ وَأَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ يَوْمِ الْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ، فَيَكُونُونَ عُمْيًا هَائِمِينَ فِي الظُّلُمَاتِ عَلَى وُجُوهِهِمْ (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ٥٧: ١٢) فَلَا يَرَوْنَ الطَّرِيقَ الْمُوصِّلَ إِلَى الْجَنَّةِ عِنْدَمَا يُسَاقُ أَهْلُهَا إِلَيْهَا وَيَكُونُونَ بُكْمًا (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ٧٧: ٣٥، ٣٦) وَذَلِكَ فِي بَعْضِ
مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ وَأَحْوَالِهَا،، وَيَكُونُونَ صُمًّا لَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا يَسُرُّهُمْ عِنْدَمَا يَسْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ بُشْرَى الْمَغْفِرَةِ مِنْ رَبِّهِمْ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ مَجْمُوعُ مَا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ وَالرِّوَايَاتِ مِنْ بَيَانِ حَالِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آيَتَيِ الْبَقَرَةِ الْمُرَادُ بِهَا اجْتِمَاعُ الصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَوَقْتٍ وَاحِدٍ، كَأَنَّهَا صِفَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ حَصَلَ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ لَمَا أَفَادَتْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
وَتَأَمَّلْ كَيْفَ بَدَأَ بِذِكْرِ الصُّمِّ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَبَيَانِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِهَا، وَبَدَأَ بِذِكْرِ الْعَمَى فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْحَشْرِ، فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ دَقَائِقِ بَلَاغَةِ هَذَا الْقُرْآنِ الَّتِي أَعْجَزَتِ الْبَشَرَ، وَكُلَّمَا غَاصَ غَائِصٌ فِي بِحَارِهَا اسْتَفَادَ شَيْئًا جَدِيدًا مِنْ فَوَائِدِ الدُّرَرِ، فَلَا تَنْفَدُ عَجَائِبُ إِعْجَازِ مَبَانِيهِ، وَلَا تَنْتَهِي عَجَائِبُ إِعْجَازِ مَعَانِيهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute